بسم الله الرحمن الرحيم
(تعريف الاصطلاحات الصوفيّة)
كما وردت في الباب الثالث والسبعين من الفتوحات المكّية*
للشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
(التَّحَلّي)
فإن قلت وما التحلّي؟ قلنا: الاتصاف بالأخلاق الإلهية، المعبَّر عنها في الطريق بالتخلّق بالأسماء. وعندنا، التحلّي: ظهور أوصاف العبودة دائماً، مع وجود التخلّق بالأسماء. فإن غاب عن هذا التحلّي؛ كان التخلّق بالأسماء عليه وبالاً، قال تعالى "كَذلِكَ يَطْبَعُ الله عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ".
وتحلّي العبد بأوصاف العبودة هو مِن تخلّقه بالأخلاق الإلهية، ولكن أكثر الناس لا يعقلون، فلو عرفوا معنى ما ورد في القرآن والسنة مِن وَصْفِ الحق سبحانه نفسه بما لا يقبله العقل إلا بالتأويل الأنزه، ما نفروا من ذلك إذا سمعوه من أمثالنا. فإن العُبودة، أعني معقولها، إن كان أمراً وجودياً، فهو عيْنه، فإن الوجود له، وإنما الحق لمّا كانت أعيان الممكنات مَظاهِرَهُ عَظُمَ على العقول أن تنسب إلى الله ما نَسبه لنفسه. فلمّا ظَهر المقام الذي وراء طور العقل بالنبوّة، وعملت الطائفة عليه بالإيمان، أعطاهم الكشف ما أحاله العقل من حيث فكره، وهو في نفس الأمر ليس على ما حكم به، وهذا من خصائص التصوف.
(التصَوُّف)
فإن قلت: وما التصوّف؟ قلنا الوقوف مع الآداب الشرعية ظاهراً وباطناً، وهي مكارم الأخلاق؛ وهو أن تعامل كلّ شيء بما يليق به ممّا يحمده منك، ولا تقدر على هذا حتى تكون من أهل اليقظة.
(اليَقَظَة)
فإن قلت: وما اليقظة حتى أكون من أهلها؟ قلنا: اليقظةُ الفهمُ عن الله في زَجْرِه، فإذا فهمتَ عن الله انتبهتَ.
(الانْتِبَاه)
فإن قلت: فما الانتباه؟ قلنا: هو زَجْرُ الحقّ عبدَه على طريق العناية، وهذا لا يحصل إلا لأهل العُبودة.
(العُبودة)
فإن قلت: وما العبودة؟ قلنا: نِسْبَةُ العبد إلى الله، لا إلى نفسه، فإن انتسبَ إلى نفسه فتلك العبودية لا العبودة، فالعبودة أتمّ، حتى لا يحكم عليه مقام السَّوا.
(مقام السَّوا)
فإن قلت: وما السَّوا؟ قلنا: بُطُون الحقِّ في الخَلْق، وبُطُون الخَلْقِ في الحقّ. وهذا لا يكون إلا فيمن عرف أنه مَظْهَرٌ للحقّ، فيكون عند ذلك باطناً للحقّ، وبهذا وردتْ الفَهوانيّة.
(الفهوانيّة)
فإن قلت: وما الفهوانية؟ قلنا: خطاب الحقّ مكافحةً في عالَم المِثال، وهو قوله صلى الله عليه وسلم في الإحسان "أن تعبد الله كأّنك تراه"، ومن هناك تعلم "الهُوَ".
(الهُوَ)
فإن قلت: وما الهو؟ قلنا: الغيب الذاتيّ الذي لا يصحّ شهودَه، فليس هو ظاهراً ولا مَظْهَراً، وهو المطلوب الذي أوضحه اللَّسَن.
(اللَّسَن)
فإن قلت: وما اللسن؟ قلنا: ما يقع به الإفصاح الإلهيّ لآذان العارفين، وهي كلمة الحَضْرة.
(كلمةُ الحَضْرة)
فإن قلت: وما كلمة الحضرة؟ قلنا: "كُنْ"، ولا يقال "كُنْ" إلا لِذي رؤية، لِيعلَمَ مَن يقول له "كُنْ" على الشهود.
(الرؤية)
فإن قلت: وما الرؤية؟ قلنا: المشاهدة بالبصر لا بالبصيرة حيث كان، وهو لأصحاب النعت.
(النَّعْت)
فإن قلت: وما النعت؟ قلنا ما طَلَب النِّسَب العدميّة كالأول، ولا يعرفه إلا عَبيد الصفة.
(الصِّفة)
فإن قلت: وما الصفة؟ قلنا: ما طلبَ المعنى الوجوديّ، كالعالِم والعِلْم لأهل الحدّ.
(الحَدّ)
فإن قلت: وما الحدّ؟ قلنا: الفصلُ بينك وبينه لتعرف من أنت، فتعرف أنه هو، فتلزم الأدب معه، وهو يوم عيدك.
(العيد)
فإن قلت: وما العيد؟ قلنا: ما يعود عليك في قلبك من التجلّي بِعَوْدِ الأعمال، وهو قوله صلى الله عليه وسلم "إن الله لا يَملّ حتى تملّوا" فطوبى لأهل القَدم.
(القَدَم)
فإن قلت: وما القدم؟ قلنا: ما ثبَتَ للعبد في علم الحق به، قال تعالى "أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ"، أي سابق عناية عند ربّهم في علم الله، ويتميّز ذلك في الكرسيّ.
(الكُرسيّ)
فإن قلت: وما الكرسيّ؟ قلنا: علمُ الأمر والنهي، فإنه قد ورد في الخبر أن "الكرسيّ موضع القدميْن"، قدم الأمر وقدم النهي الذي قيّده العرش.
(العَرْش)
فإن قلت: وما العرش؟ قلنا: مستوى الأسماء المقيّدة، وفيه ظهرت صورة المِثْل لمن "لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ"، وهذا هو المِثْلُ الثابت.
(المِثْل)
فإن قلت: وما المِثْل؟ قلنا: المخلوق على الصورة الإلهية الواردة في قوله صلى الله عليه وسلم "إن الله خلق آدم على صورته". وقال تعالى فيه "إِنِّي جاعِلٌ في الْأَرْضِ خَلِيفَةً"، وهو نائب الحقّ الظاهر بصورته، "وهُوَ الَّذِي في السَّماءِ إِلهٌ وفي الْأَرْضِ إِلهٌ"، أظهره النائب، ومشهد هذا النائب حجاب العزّة لئلّا يغلط في نفسه.
(حِجابُ العِزّة)
فإن قلت: وما حجاب العزّة؟ قلنا: العمى والحيرة، فإنه المانع من الوصول إلى علم الأمر على ما هو عليه في نفسه، ولا يقف على حقيقة هذا الأمر إلا أهل المُطَّلع.
(المُطَّلع)
فإن قلت: وما المطلع؟ قلنا: الناظرُ إلى الكون بعين الحقّ، ومن هنالك يعلم ما هو مُلْك المُلْك.
(مُلْك المُلْك)
فإن قلت: وما هو مُلْك المُلْك؟ قلنا: هو الحق في مجازاة العبد على ما كان منه، ممّا أمر به وما لم يؤمر به، ويختصّ بهذا الأمر عالَم الملكوت.
(عالَم المَلَكوت)
فإن قلت: وما عالم الملكوت؟ قلنا: عالَم المعاني والغيْب، والارتقاء إليه من عالم المُلْك.
(عالَم المُلْك)
فإن قلت: وما عالم المُلْك؟ قلنا: عالمُ الشهادة والحَرْف، وبينهما عالم البرزخ.
(عالَم البَرْزَخ)
فإن قلت: وما عالم البرزخ؟ قلنا: عالم الخيال، ويسميه بعض أهل الطريق عالم الجَبَروت، وهكذا هو عندي. ويقول فيه أبو طالب صاحب "القوت": عالم الجبروت هو العالَم الذي أُشْهِدَ العظمة، وهم خواصّ عالم الملكوت، ولهم الكمال.
(الكَمَال)
فإن قلت: وما الكمال؟ قلنا: التنزّه عن الصفات وآثارها، ولا يعرفها إلا السّاكن بأَرِين.
(أَرِين)
فإن قلت: وما أَرِين؟ قلنا: عبارة عن الاعتدال في قوله "أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى"، فإن "أرين" موضع خط اعتدال الليل والنهار، فاستعاروه، وقد ذكره منهم عبد المنعم بن حسان الجلباني في "مختصر غاية النجاة" له، ولقيته وسألته عن ذلك، فقال فيه ما شرحناه به. وصاحب هذا المقام هو صاحب الرِّداء.
(الرِّداء)
فإن قلت: وما الرداء؟ قلنا: الظهورُ بصفات الحقّ في الكون.
(الكون)
فإن قلت: وما الكون؟ قلنا: كلُّ أمر وجوديّ، وهو خِلافُ الباطل.
(الباطل)
فإن قلت: وما يريد أهل الله بالباطل؟ قلنا: العَدَم، ويقابلُ الباطلَ الحقُّ.
(الحَقّ)
فإن قلت: وما الحقّ عندهم؟ قلنا: ما وجب على العبد القيام به من جانب الله، وما أوجبه الربُّ للعباد على نفسه، إذ كان هو العالِم والعِلم.
(العالِم والعِلْم)
فإن قلت: وما العالِم والعِلْم؟ قلنا: العالِم مَن أشهده الله ألوهته وذاته ولم يظهر عليه حال، والعلم حاله، ولكن بشرط أن يفرّق بينه وبين المعرفة والعارف.
(المَعْرِفة والعارِف)
فإن قلت: وما المعرفة والعارف؟ قلنا: مَن مَشْهدُه الربُّ لا اسم إلهيّ غيره، فظهرت منه الأحوال، والمعرفة حاله. وهو مِن عالَم الخلق، كما أن العالِم من عالَم الأمر.
(عالم الخَلْق والأمر)
فإن قلت: وما عالم الخلق والأمر والله يقول "أَلا لَهُ الْخَلْقُ والْأَمْرُ"؟ قلنا: عالم الأمر ما وُجِد عن الله لا عند سبب حادث، وعالم الخلق ما أوجده الله عند سبب حادث، فالغيب فيه مستور.
(الغيب)
فإن قلت: وما الغيب في اصطلاحكم؟ قلنا: الغيب ما ستره الحق عنك، منك لا منه، ولهذا يُشار إليه.
(الإشارة)
فإن قلت: وما الإشارة؟ قلنا: الإشارةُ نداءٌ على رأسِ البُعْد، يكون في القُرب مع حضور الغَيْر، ويكون مع البُعد في العُموم والخُصوص.
(العُموم والخُصوص)
فإن قلت: وما العموم والخصوص عندهم؟ قلنا: العموم ما يقع في الصفات من الاشتراك، والخصوص ما يقع به الانفراد، وهو أحديّة كلّ شيء، وهو لُبُّ اللُّبِّ.
(لُبُّ اللُّبِ)
فإن قلت: وما لُبُّ اللُّبِّ؟ قلنا: مادة النور الإلهيّ "يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ ولَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ"، فَلُبّ اللبّ هو قوله "نُورٌ عَلى نُورٍ".
(اللُّبُّ)
فإن قلت: وما اللبّ؟ قلنا ما صِين من العلوم عن القلوب المتعلِّقة بالسِّوى، وهو القِشْر.
(القِشْر)
فإن قلت: وما القِشْر؟ قلنا: كلّ علم يصون عينَ المحقِّق من الفساد، لما يتجلّى له من خلف حجاب الظِّلّ.
(الظِّلّ)
فإن قلت: وما الظِّلّ؟ قلنا وجود الراحة خلف حجاب الضياء.
(الضِّياء)
فإن قلت: وما الضياء؟ قلنا: ما ترى به الأغيار بعين الحقّ، فالظل من أثر الظلمة، والضياء من أثر النور، والعين واحدة.
(الظُّلْمة والنور)
فإن قلت: وما الظلمة والنور اللذان عنهما الظلّ والضياء؟ قلنا: النور كلّ وارد إلهيّ ينفِّر الكون عن القلب، والظلمة قد يطلقونها على العلم بالذات، فإنه لا يكشف معها غيرها، وأكثر ما يعلم هذيْن أربابُ الأجساد.
(الجسد)
فإن قلت: وما الجسد؟ قلنا: كلّ روحٍ أو معنى ظهر في صورة جسم نوريّ أو عنصريّ حتى يشهده السِّوى.
(السِّوى)
فإن قلت: وما السِّوى هنا؟ قلنا: الغَيْر الذي يتعشّق بالمِنصّات.
(المِنَصّة)
فإن قلت: وما المِنَصّة؟ قلنا: مَجْلى الأعراس، وهي تجلّيات روحانيّة إِلِّيَّة.
(الإِلّ)
فإن قلت: وما الإِلُّ؟ قلنا: كل اسم إلهيّ أضيف إلى مَلَك أو روحانيّ مثل جِبرئيل وميكائيل وعَبْدَإِل. وبأيديهم الطبع والختم.
(الطَّبْع والخَتْم)
فإن قلت: وما الطبع والختم؟ قلنا: الختم علامة الحقّ على القلوب للعارفين، والطبعُ ما سبق به العلمُ في حقّ كل مختصّ من الإلهيّين.
(الإلهيّة)
فإن قلت: وما الإلهيّة؟ قلنا: كل اسم إلهيّ يُضاف إلى البشر مثل عبد الله وعبد الرحمن، وهم الخارجون عن الرُّعونة.
(الرُّعونة)
فإن قلت: وما الرُّعونة؟ قلنا: الوقوف مع الطبع، بخلاف أهل الإِنِّيّة، فإنهم وافقون مع الحقّ.
(الإِنِّيّة)
فإن قلت: وما الإِنِّيّة؟ قلنا: الحقيقة بطريق الإضافة، وهم المعتكفون على اللوح، المشاهدون للقلم، الناظرون في النون، المستَمِدّون من الهوية، القائلون بالأناية، الناطقون بالاتحاد لأجل الجرس.
(اللوح، الهويّة، النون، الأَناية، القلم، الاتحاد، الجرس)
فإن قلت: وما هذه الألفاظ التي ذكرتها؟ قلنا: أمّا اللوح؛ فمحلّ التدوين والتسطير المؤجّل إلى حد معلومّ. وأمّا الهوية؛ فالحقيقة الغيبيّة. وأمّا النون؛ فعِلْم الإجمال. وأمّا الأَناية؛ فقولك بك. وأمّا القلم؛ فعِلْم التفصيل. وأمّا الاتحاد؛ فتصيير الذاتيْن ذاتاً واحدة: فإمّا عبدٌ وإّما ربٌّ، ولا يكون إلا في العدد وفي الطبيعة، وهو حال. وأما الجرس؛ فإجمال الخطاب بضربٍ من القهر لقوّة الوارد. وهذا كلّه لا يناله إلا أهل النوالة.
(النوالة)
فإن قلت: وما النوالة؟ قلنا: الخِلَع التي تخصّ الأفراد من الرجال. وقد تكون الخِلَع مطلَقاً، ومع هذا فَهُم في الحِجاب.
(الحٍجاب)
فإن قلت: وما الحجاب؟ قلنا: ما سترَ مطلوبك عن عَيْنِك، إذا كان الحجاب مما يلي المخدع.
(المَخْدَع)
فإن قلت: وما المَخْدَع؟ قلنا: مَوْضِعُ سَتْرِ القطبِ عن الأفراد الواصلين، عندما يُخْلَع عليهم. وهو خزانة الخِلَع، والخازِن هو القطب. قال محمد بن قائد الأواني: "رَقَيْتُ حتى لم أرَ أمامي سوى قدمٍ واحدة، فَغِرْتُ، فقيل: هي قدم نبيّك، فسكن جأشي". وكان من الأفراد، وتخيّل أن ما فوقه إلا نبيّه، ولا تقدَّمه غيرُه، وصدق رضي الله عنه، فإنه ما شاهد سوى طريقه، وطريقه ما سلك عليها غير نبيِّه. وقيل له: هل رأيت عبد القادر؟ قال: ما رأيت عبد القادر في الحضرة. فقيل ذلك لعبد القادر، قال: صدق ابنُ قائد في قوله، فإني رأيته هناك حيث قال. فقيل له: أين كنت أنت، يا سيدنا؟ قال: كنت في المخدع، ومن عندي خرجت له النوالة. وسمّاها بعينها. فسئل ابن قائد عن النوالة، ما صفتها؟ فقال: مثل ما قال عبد القادر. فكان أحدهما من أهل الخَلوة، والآخر من أهل الجَلوة.
(الخَلْوة والجَلْوة)
فإن قلت: وما الخَلوة والجَلوة؟ قلنا: الجلوة خروج العبد من الخلوة بنعوت الحق، فيحرق ما أدركه بصره. والخلوةُ محادثةُ السرِّ مع الحق، حيث لا مَلَك ولا أحد، وهنالك يكون الصَّعْق.
(الصَّعْق)
فإن قلت: وما الصعق؟ قلنا: الفناء عند التجلّي الربانيّ، وهو لأهل الرجاء لا لأهل الخوف.
(الرجاء والخوف)
فإن قلت: وما الرجاء والخوف؟ قلنا: الرجاءُ الطمعُ في الآجِل، والخوفُ ما يُحْذَرُ مِن المكروه في المستأنف، ولهذا يُجْنَح إلى التولّي: وهو رجوعك إليك منه بعد التلقّي.
(التلقّي)
فإن قلت: وما التلقّي؟ قلنا: أخذُك ما يَرِدُ من الحقّ عليك عند الترقّي.
(التَّرَقّي)
فإن قلت: وما الترقي؟ قلنا: التنقّل في الأحوال والمقامات والمعارف، نفساً وقلباً وحقّاً، طَلَبَاً للتداني.
(التداني)
فإن قلت: وما التداني؟ قلنا: معراجُ المُقرَّبين إلى التدلّي.
(التدلّي)
فإن قلت: وما التدلّي؟ قلنا: نزول الحقِّ إليهم، ونزولهم لمن هو دونهم بسكينة.
(السَّكينة)
فإن قلت: وما السَّكينة؟ قلنا: ما تجده من الطمأنينة عند تنزّل الغيب بالحَرْف.
(الحَرْف)
فإن قلت: وما الحرف؟ قلنا: ما يخاطبك به الحقّ من العبارات، مثل ما أُنزل القرآن على سبعة أحرف، والحرف صورة في السبَجَة السوداء.
(السبَجَة)
فإن قلت: وما السبحة؟ قلنا: الهَباءُ الذي فتح فيه صور أجسام العالم المنفعِل عن الزمرّدة الخضراء.
(الزمرّدة الخضراء)
فإن قلت: وما الزمرّدة الخضراء؟ قلنا: النفس المنبعثة عن الدرّة البيضاء.
(الدُّرّة البيضاء)
فإن قلت: وما الدرّة البيضاء؟ قلنا: العقل الأول، صاحب عِلْمِ السّمْسِمة.
(السِّمْسِمة)
فإن قلت: وما السمسمة؟ قلنا: معرفةٌ دقيقةٌ في غاية الخفاء، تَدِقُّ عن العبارة، ولا تُدرك بالإشارة، مع كونها ثمرة شجرة.
(الشجرة)
فإن قلت: وما هذه الشجرة؟ قلنا: الإنسان الكامل مدبِّر هيكل الغُراب.
(الغُراب)
فإن قلت: وما الغراب؟ قلنا: الجسم الكلّ، الذي هو أوّل صورة قَبِلَ الهباء، ويَنظر إليه العُقاب بوساطة الوَرْقاء.
(العُقاب والوَرقاء)
فإن قلت: وما العُقاب؟ قلنا: الروح الإلهيّ الذي نفخَ الحقّ منه في الهياكل كلّها أرواحها المحرّكة لها والمسكّنة، والورقاءُ النفسُ التي بين الطبيعة والعقل. ودون الطبيعة هي العنقاء.
(العَنْقاء)
فإن قلت: وما العنقاء؟ قلنا: الهباء، لا موجود ولا معدوم، على أنها تتمثّل في الواقعة.
(الواقعة)
فإن قلت: وما الواقعة؟ قلنا: ما يَرِد على القلب من العالم العلويّ بأي طريق كان، من خطابٍ أو مثال، أو غير ذلك، على يد الغوث.
(الغَوْث)
فإن قلت: وما الغوث؟ قلنا: صاحب الزمان وواحِدُه، وقد يكون ما يعطيه على يد إلياس.
(إلياس)
فإن قلت: وما إلياس؟ قلنا: عبارة عن القبض، وقد يكون ما يعطيه على يد الخِضر.
(الخضر)
فإن قلت: وما الخضر؟ قلنا: عبارة عن البسط. وهذه العطايا من بحر الزوائد.
(الزوائد)
فإن قلت: وما الزوائد؟ قلنا: زيادات الإيمان بالغيب واليقين، ولها رجالٌ مخصوصون ذكرناهم في أول الباب، فإنهم مؤقّتون، هم عشرة أشخاص لا يزيدون ولا ينقصون، غير أنهم قد يكون منهم نساء، ويوجدهم الاسم والرسم.
(الاسم والرسم)
فإن قلت: وما الاسم والرسم؟ قلنا: الرسمُ نعتٌ يجري في الأبد بما جرى في الأزل. والاسمُ الحاكمُ على حالِ العبد في الوقت من الأسماء الإلهيّة عند الوصل.
(الوَصْل)
فإن قلت: وما الوصل؟ قلنا: إدراكُ الفائت، وهو أوّل الفتوح.
(الفتوح)
فإن قلت: وما الفتوح؟ قلنا: فتوحُ العبارة في الظاهر، وفتوحُ الحلاوة في الباطن، وفتوحُ المكاشفة لتصحيح المطالعة.
(المطالعة)
فإن قلت: وما المطالعة؟ قلنا: توقيعات الحقّ تعالى للعارفين ابتداءً وعن سؤال منهم، فيما يرجع إلى حوادث الكون، وفيها أقول:
خرجَ التوقيعُ لي بالأمانِ *** وَلْتُحاذِرْ غائلاتِ الأماني
يَنْقَضي الدهرُ ولا شيءَ منها *** حاصلٌ قد مَلَكَتْهُ اليَدَانِ
فاشْتَغِلْ بي لا تُخالِطْ سَوَايَ *** فَسِوَايَ شأنهُ غيرُ شاني
لا تَغُرَّنَّكَ عَبْدي المَثاني *** فأنا الثاني ولستُ بِثانِ
يَشْتَهي مَنْ ظَلّ بي مُسْتَهاماً *** أنْ يَراني أو يَرى مَنْ رَآني
وأنا أقربُ مِنهُ إليهِ *** فَلْيُزِلْ عَنّي حُكْمَ المكانِ
فَيَراني مِنْهُ فِيهِ بِعَيْنِي *** إنَّ عَيْنَ الغَيْرِ لَيْسَتْ تَراني
والمطالعة لا تكون إلا لأهل الحرّيّة.
(الحرّيّة)
فإن قلت: وما الحرّيّة؟ قلنا: إقامةُ حقوق العبودية لله تعالى، فهو حرٌّ عمّا سوى الله لأجل الغيرة الإلهية، "فإن الله غيورٌ ومن غيرته حرّم الفواحش".
(الغَيْرة)
فإن قلت: وما الغَيْرة؟ قلنا: تُطلق في الطريق بإزاء ثلاثة معانٍ؛ غَيرةٌ في الحقّ لتعدّي الحدود، وغَيرة تُطلق بإزاء كتمان الأسرار والسرائر، وغَيرة الحقِّ ضِنَّتُه على أوليائه: وهم الضنائن أصحاب الهِمَم.
(الهِمَم)
فإن قلت: وما الهِمّة؟ قلنا: تُطلق بإزاء تجريد القلب للمُنى، وبإزاء أوّلِ صِدْق المريد، وبإزاء جمع الهِمَم بصفاء الإلهام، هذا عند أهل الغُربة.
(الغُربة)
فإن قلت: وما الغُربة؟ قلنا: مفارقة الوطن في طلب المقصود، وغربة عن الحال من حقيقة النفوذ فيه، وغربة عن الحق من الدهَش عن المعرفة لحكم الاصطلام.
(الاصْطِلام)
فإن قلت: وما الاصطلام؟ قلنا: نعتُ وَلَهٍ يَرِدُ على القلب فيسكن تحت سلطانه حَذَرَ المكر.
(المَكْر)
فإن قلت: وما المَكْر؟ قلنا: إردافُ النعم مع المخالفة، وقد رأيناه في أشخاص، وإبقاءُ الحال مع سوء الأدب. وهو الغالب على أهل العراق؛ وما نجا منه في علمنا إلا أبو السعود بن الشِّبْل، سيّد وقتِه. (والمكر هو) إظهارُ الآيات والكرامات من غير أمرٍ ولا حدّ، وهي عندنا خَرْقُ عوائدٍ لا كرامات، إلا أن يَقصد بها المتحدِّث التحدُّث بالنِّعَم، ولكن تَمْنَع العارفين مِن مثل هذا الرهبةُ.
(الرَّهْبة)
فإن قلت: وما الرَّهبة؟ قلنا: رهبة الظاهر لتحقيق الوعيد، ورهبة الباطن لتقلّب العلم، ورهبةٌ لتحقيق أمر السَّبْق، ولكن بعد سبق الرغبة.
(الرَّغْبة)
فإن قلت: وما الرغبة؟ قلنا: رغبة النفس في الثواب، ورغبة القلب في الحقيقة، ورغبة السرّ في الحقّ، وهو مقام التمكين.
(التمكين)
فإن قلت: وما التمكين؟ قلنا: عندنا هو التمكّن في التكوين، وعند الجماعة حالُ أهلِ الوصول. وعدلنا نحن فيه إلى ما قلناه لقوله تعالى "كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ"، وعدلت الجماعة إلى قوله تعالى "إِنَّ الله يُمْسِكُ السَّماواتِ والْأَرْضَ أَنْ تَزُولا"، وهذه الآية أيضاً تعضدنا فيما ذهبنا إليه فالتمكين في التلوين أَوْلى.
(التلوين)
فإن قلت: فما التلوين؟ قلنا: تنقّل العبد في أحواله، وهو عند الأكثرين مقامٌ ناقص، وعندنا هو أكمل المقامات؛ لأنه موضع التشبّه بالمطلوب للإنسان. وسببه الهجوم.
(الهجوم)
فإن قلت: وما الهجوم؟ قلنا: ما يَرِدُ على القلب بقوّة الوقت من غير تصنّعٍ منك عَقِيبَ البَوادِه.
(البَوادِه)
فإن قلت: وما البَوادِه؟ قلنا: ما يفجأ القلب من الغيب على سبيل الوَهْلة، إمّا موجِب فرح أو موجِب تَرَح، ولكن مع كونها بوادِه لا بد أن يتقدّمها لَوامِع.
(اللوامع)
فإن قلت: وما اللوامِع؟ قلنا: ما ثبت من أنوار التجلّي وقتيْن، وقريبٌ من ذلك، بعد الطوالع.
(الطوالع)
فإن قلت: وما الطوالع؟ قلنا: أنوار التوحيد تَطْلع على قلوب أهل المعرفة فتطمس سائر الأنوار، عندما تحكم على الأسرار اللوائحُ.
(اللوائح)
فإن قلت: وما اللوائح؟ قلنا: ما يلوح للأسرار الظاهرة من السموّ من حالٍ إلى حال، هذا عند القوم. وعندنا؛ هي ما يلوح للبصر، إذا لم يتقيد بالجارحة، من الأنوار الذاتية لا من جهة السَّلب، وهي من أحوال أهل المسامرة.
(السَّمَر)
فإن قلت: وما السمر؟ قلنا: خطاب الحق للعارفين من عالم الأسرار والغيوب "نَزَلَ به الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ"، وهو خُصوصٌ في المحادثة.
(المحادثة)
فإن قلت: وما المحادثة؟ قلنا: خطابُ الحقّ للعارفين من عباده من عالم المُلْك، كالنداء مِن الشجرةِ لموسى، وهو فرعٌ عن المشاهدة.
(المشاهدة)
فإن قلت: وما المشاهدة؟ قلنا: رؤية الأشياء بدلائل التوحيد، وتكون أيضاً رؤية الحق في الأشياء، وتكون أيضاً حقيقة اليقين من غير شكّ. وهي تتلو المكاشفة، وقد قيل: تتلوها المكاشفة.
(المكاشفة)
فإن قلت: وما المكاشفة؟ قلنا: تحقيق الأمانة بالفهم، وتحقيق زيادة الحال، وتحقيق الإشارة التي تعطيها المحاضرة.
(المحاضرة)
فإن قلت: وما المحاضرة؟ قلنا: حضور القلب بتواتر البرهان. وعندنا مجاراةُ الأسماء بينها بما هي عليه من الحقائق في وقت التخلّي.
(التخلّي)
فإن قلت: وما التخلّي؟ قلنا: اختيار الخَلْوة، والإعراض عن كل ما يشغل عن الحقّ، طلبُ التجلّي ــ بالجيم.
(التجلّي)
فإن قلت: وما التجلّي؟ قلنا: ما ينكشف للقلوب من أنوار الغيوب بعد الستر.
(السَّتْر)
فإن قلت: وما الستر؟ قلنا: كل ما سترك عمّا يفنيك، وقيل: هو غِطاء الكون، وقد يكون الوقوف مع العادات، وقد يكون الوقوف مع نتائج الأعمال ما لم يغلب سلطان المَحْق.
(المَحْق)
فإن قلت: وما المَحْق؟ قلنا: فَناؤُكَ في عَيْنه بعد تحكّمِ السَّحْق.
(السَّحْق)
فإن قلت: وما السحق؟ قلنا: تَفَرُّقُ تركيبكَ تحت القهر لأجلِ الزاجِر.
(الزاجِر)
فإن قلت: وما الزاجر؟ قلنا: واعظُ الحقِّ في قلبِ المؤمن، وهو الداعي بحكم الزمان.
(الزمان)
فإن قلت: وما الزمان؟ قلنا: السلطان، فإنه قد يحول بينك وبين الذهاب.
(الذهاب)
فإن قلت: وما الذَّهاب؟ قلنا: غَيْبةُ القلبِ عن حِسِّ كل مَحْسوسٍ بمشاهدةِ محبوبه، كان المحبوب ما كان، قبل الفصل.
(الفَصْل)
فإن قلت: وما الفصل؟ قلنا: فَوْتُ ما ترجوه من محبوبك، وهو عندنا تمييزُكَ عنه بعد حال الاتحاد الذي هو نتيجة المجاهدة.
(المُجاهدة)
فإن قلت: وما المجاهدة؟ قلنا: حَمْلُ النفس على المشاقّ البدنيّة، ومخالفة الهوى على كل حال، ولكن لا يتمكّن له مخالفة الهوى إلا بعد الرياضة.
(الرياضة)
فإن قلت: وما الرياضة؟ قلنا: رياضة الأدب وهو الخروج عن طبع النفس، ورياضة الطلب وهي صحة المُراد به، وبالجملة فهي عبارة عن تهذيب الأخلاق النفسيّة، وذلك عن علّة.
(العِلّة)
فإن قلت: وما العلة؟ قلنا: تنبيه الحق لعبده بسببٍ وبغير سبب، وهو من عين اللطف، وتسمّيه أهل الطريق "اللطيفة".
(اللطيفة)
فإن قلت: وما اللطيفة؟ قلنا: كل إشارة دقيقة المعنى تلوح في الفهم لا تَسَعها العبارة، وهي المؤدّية إلى التفريد، وقد يطلقون اللطيفة على حقيقة الإنسان.
(التفريد)
فإن قلت: وما التفريد؟ قلنا: وقوفك بالحقّ معك، ومن شرطه التجريد.
(التجريد)
فإن قلت: وما التجريد؟ قلنا: إماطة السِّوى والكَوْنِ عن القلب والسرّ، من أجل حُكْمِ الفترة.
(الفَتْرة)
فإن قلت: وما الفترة؟ قلنا: خمود نار البداية المُحْرِقة، وهي حالةٌ تشبه حالة الوَقْفة التي للواقفين.
(الوَقْفة)
فإن قلت: وما الوقفة؟ قلنا: الحَبْس بين المقامَيْن، مع العِصْمة من الوَلَه.
(الوَلَه)
فإن قلت: وما الوَلَه؟ قلنا: إفراطُ الوجد بمشاهدة السرّ.
(السِّرّ)
فإن قلت: وما السرّ؟ قلنا: سرّ العلم بإزاء حقيقة العالِم به، وسرّ الحال بإزاء معرفة مُراد الله فيه، وسر الحقيقة بإزاء ما تقع به الإشارة من الروح.
(الروح)
فإن قلت: وما الروح؟ قلنا: المُلْقي إلى القلب عِلْم الغيب على وجهٍ مخصوص، تتلقّاه منه النفْس.
(النَّفْس)
فإن قلت: وما النفس؟ قلنا: ما كان معلوماً من أوصاف العبد بحكم الشاهد.
(الشاهد)
فإن قلت: وما الشاهد؟ قلنا: ما تعطيه المشاهدة من الأثر في قلب المشاهد، وهو على صورة ما يضبطه القلب من رؤية المشهود، وعلى الشاهد يَرِدُ الوارِد.
(الوارِد)
فإن قلت: وما الوارِد؟ قلنا: ما يَرِدُ على القلوب من الخواطر المحمودة من غير تَعَمُّل، وكل ما يَرِدُ على القلب من كلّ اسمٍ إلهيّ. وهو الذي يعطي أحياناً حقّ اليقين.
(حقّ اليقين)
فإن قلت: وما حقّ اليقين؟ قلنا: ما حصل من العلم بالعلّة، ولكن بعد عين اليقين.
(عين اليقين)
فإن قلت: وما عين اليقين؟ قلت ما أعطته المشاهدة والكشف ابتداءً، وبعد علم اليقين.
(علم اليقين)
فإن قلت: وما علم اليقين؟ قلنا: ما أعطاه الدليل الذي لا يحتمل الشُّبَه الوارِدة من الخاطر.
(الخاطِر)
فإن قلت: وما الخاطِر؟ قلنا: ما يَرِدُ على القلب والضمير من الخطاب، ربّانياً كان أو غير ربانيّ، ولكن من غير إقامة، فإن أقام فهو حديثُ نَفْسٍ، فصاحبه مُفتقِر إلى النفَس.
(النَّفَس)
فإن قلت: وما النَّفَس؟ قلنا: روحٌ يسلّطه الله على نارِ القلبِ ليطفئ شَرَرَها لأجلِ سلطان الحقيقة.
(الحقيقة)
فإن قلت: وما الحقيقة؟ قلنا: سَلْبُ آثارِ أوصافِك عنكَ بأوصافه، بأنه الفاعل بك فيك منك لا أنت، "ما من دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها"، فكأنّه حالُ بُعْد.
(البُعْد)
فإن قلت: وما البُعْد؟ قلنا: الإقامة على المخالفات، وقد يكون البعد منك، وتختلف باختلاف الأحوال، فيدلّ على ما تعطيه قرائن الأحوال، وكذلك القُرْبِ.
(القُرْب)
فإن قلت: وما القرب؟ قلنا: القيامُ بالطاعة، وقد يُطلق على حقيقةِ قابِ قوسيْن، وهو قَدْرُ الخطّ الذي يقسم قطري الدائرة فيشقّها بقسميْن، وهو غاية القرب المشهود، ولا يدركه إلا صاحب إثباتٍ لا صاحبَ مَحْوٍ.
(المَحْو والإِثْبات)
فإن قلت: فما المَحْو وما الإِثْبات؟ قلنا: الإثبات إقامة أحكام العبادات، وإثبات المواصلات. وأمّا المَحْو فرفع أوصاف العادة وإزالة العلّة، وهو أيضاً ما ستره الحق ونفاه، وعنه يكون الذوق.
(الذَّوْق)
فإن قلت: وما الذوق؟ قلنا: أول مبادئ التجلّي المؤدّي إلى الشُّرْب.
(الشُّرْب)
فإن قلت: وما الشُّرْب؟ قلنا: الوسط من التجلّي مِن مقامٍ يستدعي الريّ، وقد يكون من مقام لا يستدعي الريّ، وقد يكون مزاج الشارب لا يقبل الريّ.
(الرّيّ)
فإن قلت: وما الريّ؟ قلنا: غايات التجلّي في كل مقام، فإن كان المشروب خمراً أدّى إلى السُّكْر.
(السُّكْر)
فإن قلت: وما السُّكْر؟ قلنا: غَيْبَةٌ بواردٍ قَوّيٍّ مُفْرِح، يكون عنه صَحْوٌ في الكبير.
(الصَّحْو)
فإن قلت: فما الصحو؟ قلنا: رجوعٌ إلى الإحساسِ بعد الغَيْبةِ بواردٍ قويّ.
(الغَيْبة)
فإن قلت: وما الغيبة؟ قلنا: غيبة القلب عن علمِ ما يجري من أحوال الخَلْقِ، لشغلِ الحسِّ بما وَرَد عليه من الحضور.
(الحضور)
فإن قلت: وما الحضور؟ قلنا: حضور القلب بالحقّ عند غَيْبَته، فيتّصف بالفناء.
(الفناء)
فإن قلت: وما الفناء؟ قلنا: فناءُ رؤيةِ العبدِ فعلَه بقيام الله على ذلك، وهو شبه البقاء.
(البقاء)
فإن قلت: وما البقاء؟ قلنا: رؤيةُ العبدِ قيامَ اللهِ على كلّ شيء مِن عَيْنِ الفَرْق.
(الفَرْق)
فإن قلت: وما الفَرْق؟ قلنا: إشارةٌ إلى خلقٍ بلا حقّ، وقيل: مشاهدة العبودة، وهو نقيض الجمع.
(الجَمْع)
فإن قلت: وما الجَمْع؟ قلنا: إشارةٌ إلى حقٍّ بلا خلق، وعليه يَرِدُ جَمْعُ الجَمْع.
(جَمْعُ الجَمْع)
فإن قلت: وما جمع الجمع؟ قلنا: الاستهلاك بالكُلّيّة في الله عند رؤية الجمال.
(الجَمال)
فإن قلت: وما الجَمال؟ قلنا: نُعوتُ الرحمة والأَلْطاف من الحضرة الإلهيّة باسمه الجميل، وهو الجمال الذي له الجلال المَشهود في العالم.
(الجَلال)
فإن قلت: وما الجَلال؟ قلنا: نُعوتُ القهر من الحضرة الإلهيّة الذي يكون عنده الوجود.
(الوُجود)
فإن قلت: وما الوُجود؟ قلنا: وِجْدان الحقّ في الوَجْد.
(الوَجْد)
فإن قلت: وما الوَجْد؟ قلنا: ما يصادف القلب من الأحوال المُفْنِيةِ له عن شهودِهِ وإن تقدّمه التواجد.
(التَّواجُد)
فإن قلت: وما التّواجُد؟ قلنا: استدعاء الوَجْد، وإظهارُ حالة الوجد من غير وجد، لأُنْسٍ يجده صاحبُه.
(الأُنْس)
فإن قلت: وما الأنس؟ قلنا: أثرُ مشاهدةِ جمالِ الحضرةِ الإلهيّةِ في القلب، وهو جلال الجمال، فإنه لا يكون عنه الهَيْبة.
(الهَيْبَة)
فإن قلت: وما الهيبة؟ قلنا: هي مشاهدةُ جمال الله في القلب. وأكثرُ الطبقةِ يرونَ الأُنْسَ والبَسْطَ من الجمال، وليس كذلك.
(البَسْط)
فإن قلت: وما البَسْط؟ قلنا: هو عندنا من يَسَعُ الأشياء ولا يَسَعَهُ شيء. وقيل: هو حال الرجاء. وقيل: هو واردٌ توجبه إشارةٌ إلى قبولٍ ورحمةٍ وأُنْسٍ، وهو نقيض القبض.
(القَبْض)
فإن قلت: وما القبض؟ قلنا: حال الخوف في الوقت، وواردٌ يَرِدُ على القلب توجبهُ إشارةٌ إلى عِتابٍ وتأديبٍ، وقيل: أَخِيذُ واردِ الوقت. وهاتان الحالتان قد توجَدان لأهل المكان.
(المكان)
فإن قلت: وما المكان؟ قلنا: منزلةٌ في البِساط لا تكون إلا لأهل الكمال، الذين تحقّقوا بالمقامات والأحوال، وجازوها إلى المقام الذي فوق الجلال والجمال؛ فلا صفةَ لهم ولا نعت. قيل لأبي يزيد: "كيف أصبحت؟ قال: لا صباح لي ولا مساء، إنمّا الصباح والمساء لمن تقيّد بالصفة، ولا صفة لي". واختلف أصحابنا في هذا القول؛ هل هو شطح، أو ليس بشطح؟ فإن المكان اقتضاه له.
(الشَّطْح)
فإن قلت: وما الشطح؟ قلنا: عبارة عن كلمة عليها رائحة رعونة ودعوى، وهي نادرة أن توجد من المحقِّقين أهل الشريعة.
(الشريعة)
فإن قلت: وما الشريعة؟ قلنا: عبارة عن الأمر بالتزام العبوديّة الذي لا يكون معها عين التحكيم.
(عَيْن التحكيم)
فإن قلت: وما عين التحكيم؟ قلنا: تحدّي الوليّ بما يريده إظهاراً لمرتبته لأمرٍ يراه فيزعجه.
(الانزعاج)
فإن قلت: وما الانزعاج؟ قلنا: أثرُ الواعِظ الذي في قلب المؤمن. وفي أصحاب الأحوال: التحرّكُ للوجدِ والأنس.
(الحال)
فإن قلت: وما الحال؟ قلنا: هو ما يَرِدُ على القلب من غير تعمّلٍ ولا اجتلاب، ومن شرطه أن يزول ويُعْقِبَهُ المِثْلُ بعد المِثْلِ، إلى أن يصفو، وقد لا يُعْقِبُه المِثْل. ومن هنا نشأ الخلاف بين الطائفة في دوام الأحوال: فمن رأى تعاقبَ الأمثال، ولم يعلم أنها أمثال، قال بدوامه، واشتقّه من الحُلول، ومن لم يُعْقِبْهُ مِثْل قال بعدم دوامه، واشتقّه من حالَ يَحولُ إذا زال. وأنشدوا في ذلك:
لَوْ لَمْ تَحُلْ ما سُمّيتَ حالاً *** وكلُّ ما حَالَ فَقَدْ زَالا
وقد قيل: الحالُ تغيّرُ الأوصاف على العبد، فإذا استحكمَ وثبتَ فهو المقام.
(المقام)
فإن قلت: وما المقام؟ قلنا: عبارة عن استيفاء حقوق المراسم على التمام، وغايةُ صاحبهِ أن لا مقام، وهو الأدب.
(الأدب)
فإن قلت: وما الأدب؟ قلنا: وقتاً يريدون به أدبَ الشريعة، ووقتاً أدبَ الخدمة، ووقتاً أدبَ الحقّ. فأدبُ الشريعةِ: الوقوفُ عند مراسِمِها، وهي حدود الله. وأدبُ الخدمةِ: الفناءُ عن رؤيتها، مع المبالغة فيها برؤية مُجْرِيها. وأدبُ الحقِّ: أن تعرف ما لكَ وما له. والأديبُ مَنْ كان بحكم الوقت، أو من عرفَ وقته.
(الوقت)
فإن قلت: وما الوقت؟ قلنا: ما أنت به من غير نظرٍ إلى ماضٍ ولا إلى مستقبل، هكذا حَكَمَ أهلُ الطريق.
(الطريق)
فإن قلت: وما الطريق عندهم؟ قلنا: عبارة عن مراسِم الحقّ المشروعة التي لا رخصة فيها، من عزائم ورخَص في أماكنها، فإن الرخَص فيأماكنها لا يأتيها إلا ذو عزيمة، فإن كثيراً من أهل الطريق لا يقول بالرخص. وهو غلط، فإنه يفوته محبة الله في إتيانها، فلا يكون له ذوق فيها. فهو كمثل الذي يقضي ولا يتنفّل دائماً، وهو غاية الخطأ. بل المشروع أن يتطوّع، فإن نقصت فرائضه كملت له من تطوّعه وهو النوافل، وإن لم ينتقص منها شيئاً كانت له نوافل كما نَواها، ويحصل له ذوق محبّة الله إياه من أجلها، فقد أبطلَ شرعَ الله من لم تكن هذه حاله. فإنه إن كانت فريضته تامّة لم يَجُزْ قضاؤها، فقد شرع ما لم يُشرَع له ولم يأذن به الله، وأن الله ما يكتبها له نافلة فإنه ما نواها، وقد أساء الأدب مع الله، حيث سمّاها الله تطوعاً، وقال هذا: قضاء، فلا يحصل له ثمرة النوافل لأنها غير مَنْوِيَّة، ولا وردَ في ذلك شرعٌ أنه يكتب له ما نواهُ قضاءً نافلة. هذا هو الطريق الذي يكون فيه سَفَرُ القوم.
(السَّفَر)
فإن قلت: وما السَّفَر؟ قلنا: القلبُ إذا أخذ في التوجّه إلى الحقّ تعالى بالذِّكْرِ، بحقٍّ أو بنفسٍ كيف كان، فإنه يُسمّى مسافراً.
(المسافر)
فإن قلت: وما المسافر؟ قلنا: هو الذي سافر بفكره في المعقولات، وهو الاعتبار في الشرع، فعبَر من العُدوة الدنيا إلى العُدوة القصوى، وهو العامِل السّالِك.
(السّالِك)
فإن قلت: وما السالك؟ قلنا: هو الذي مشى على المقامات بحالِه لا بعلمه: وهو العمل، فكان العِلْمُ له عيناً. قال ذو النون: "لقيتُ فاطمة النيسابوريّة فما ذكرتُ لها مقاماً إلا كان ذلك المقام لها حالاً". وقد يحصل هذا للمُراد والمُريد.
(المُراد والمُريد)
فإن قلت: وما المراد وما المريد؟ قلنا: المرادُ عبارة عن المجذوب عن إرادته، مع تهيّؤ الأمر له، فجاوَزَ الرسومَ كلّها والمقامات من غير مكابدة. وأما المريد فهو المتجرّدُ عن إرادته. وقال أبو حامد: "هو الذي صحّ له الأسماء ودخل في جملة المنقطعين إلى الله بالاسم". وأما المريد عندنا فنطلقه على شخصيْن لحاليْن: الواحد مَن سلك الطريق بمكابدةٍ ومشاقّ، ولم تصرفه تلك المشاقّ عن طريقه، والآخر من تنفُذ إرادته في الأشياء، وهذا هو المتحقِّق بالإرادة لا المُراد.
(الإرادة)
فإن قلت: وما الإرادة؟ قلنا: لوعة في القلب يطلقونها ويريدون بها إرادةَ التمنّي وهي منه، وإرادةَ الطبع ومتعلّقُها الحظّ النفسيّ، وإرادةَ الحقّ ومتعلّقها الإخلاص، وذلك بحسب الهاجِس.
(الهاجِس)
فإن قلت: وما الهاجس؟ قلنا: الخاطر الأوّل، وهو الخاطر الربانيّ الذي لا يخطئ أبداً، ويسمّونه: السببَ الأول ونَقْرَ الخاطر.
(ارتباط المقامات والمراتب بضربٍ من التناسب)
فهذا قد بيّنا لك ارتباط المقامات والمراتب بضربٍ من التناسب، وتعلّق بعضها ببعض، وقليلٌ من سَلَكَ في إيضاحها هذا المسلك، وهذا مساق المسلسل في لغات العرب. وهي طريقة غريبة أشار إليها إبراهيم بن أدهم وغيره رضي الله عنهم، وبان منها شرح ألفاظ اصطلاح القوم. فحصل من ذلك منها فائدتان: الواحدة معرفة ما اصطلحوا عليه، والثاني المناسَبات التي بينهما، والله الموفّق.
*محي الدين ابن العربي، الفتوحات المكّية، الجزء الخامس، تحقيق: عبد العزيز سلطان المنصوب، الجمهورية اليمنية: وزارة الثقافة، 2010، ص 49 - 69.