1 قراءة دقيقة
التوبة على يد سيدنا عيسى عليه السلام

بسم الله الرحمن الرحيم

(التوبة على يد سيدنا عيسى عليه السلام)*

شيخه الأول عيسى عليه السلام

على الرغم من أن فتحه كان جذبةً سبقت رياضته، فإن بداية الشيخ محي الدين ابن العربي في طريق التصوف لم تكن تحوّلاً أو منعطفاً غير متوقّع في حياته، كما قد يُتوهّم من بعض الروايات، لأن طبيعته وميوله كانت منذ صغره موافِقةً لأهل الله تعالى من الفقراء والزهّاد، إلى أن انتظم كليّاً في طريق الزهد منذ بداية شبابه، وربّما قبل بلوغه سنّ الرشد، حيث بدأ التربية على أيدي شيوخ عصره..

ولكن الشيخ الأكبر كثيراً ما يشير في "الفتوحات المكية" كيف أن توبته حصلت في الحقيقة على يد عيسى ابن مريم عليه السلام، في رؤيا مبشِّرة رآه فيها مع غيره من الرسل صلى الله وسلم عليهم أجمعين.. وهذا معنى قوله في الفتوحات: "ومن الواقعة كان رجوعنا إلى الله، وهو أتمّ العلل، لأن الوقائع هي المبشرات..".

وقال أيضاً بمزيد من التفصيل، في الباب التاسع والعشرين وخمسمائة، في معرض حديثه عن معرفة حال قطب، يبدو أنه هو نفسه الشيخ الأكبر، كان منزله الآية من سورة الأعراف (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ.. [58]): "اعلم، أيّدنا الله وإياك بروح القدس، أن هذا الذِكر كان لنا من الله عزّ وجلّ؛ لمّا دعانا الله تعالى إليه، فأجبناه إلى ما دعانا إليه مدّة، ثم حصلت عندنا فترة، وهي الفترة المعلومة في الطريق عند أهل الله التي لا بدّ منها لكل داخل في الطريق. ثم إذا حصلت الفترة إما أن يعقبها رجوع إلى الحال الأوّل من العبادة والاجتهاد، وهم أهل العناية الإلهية الذين اعتنى الله عزّ وجلّ بهم، وإما أن تصحبه الفترة فلا يفلح أبداً. فلمّا أدركتنا الفترة وتحكّمت فينا، رأينا الحقّ في الواقعة، فتلى علينا هذه الآيات: (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ). ثم قال: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ)، فعلمت أني المراد بهذه الآية. وقلت: ينبّه بما تلاه علينا على التوفيق الأوّل الذي هدانا الله به على يد عيسى وموسى ومحمد، سلام الله على جميعهم، فإن رجوعنا إلى هذا الطريق كان بمبشّرة على يد عيسى وموسى ومحمد عليهم السلام؛ (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ)، وهي العناية بنا، (حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً)، وهو ترادف التوفيق، (سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ)، وهو أنا، (فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ)، وهو ما ظهر علينا من أنوار القبول والعمل الصالح والتعشّق به. ثم مثّل فقال: (كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، يشير بذلك إلى خبر ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في البعث، أعني حشر الأجسام، من "أن الله يجعل السماء تمطر مثل مَنِيّ الرجال" الحديث. ثم قال: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ)، وليس سوى الموافقة والسمع والطاعة لطهارة المحل، (وَالَّذِي خَبُثَ)، وهو الذي غلبتْ عليه نفسُه والطبع، وهو معتنى به في نفس الأمر، (لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا)، مثل قوله [صلّى الله عليه وسلّم]: إن لله عباداً يقادون إلى الجنة بالسلاسل"، وقوله [تعالى[: (وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا)، فقلنا: طوعاً يا إلهنا.".

ومع أنه يذكر أنه رأى في هذه الواقعة عيسى وموسى ومحمداً صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، إلا أنه يخصّ عيسى عليه السلام، لأنه هو الذي تولاّه منذ بدايته، فكان "عيسويّ المقام" مثل شيخه أبي العبّاس العريبي الذي بدأ معه الطريق.. مع أنه انتقل بعد ذلك إلى المقام المحمديّ.

بداية زهده وتخلّيه عن أمواله

كما هو الأمر على كل من يريد دخول طريق التصوف والزهد، كان لا بدّ لابن العربي من أن يتخلّى عن ماله ومُلكه، حتى يتفرّغ لعبادة ربّه ويحرّر نفسه من قيود التعلّقات الدنيوية. ويُرجِع ابن العربي أصل هذا التصرّف إلى الحديث الشهير عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوماً أن نتصدّق ووافق ذلك مالاً عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً، فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما أبقيت لأهلك؟ قلت، أبقيت لهم، قال: ما أبقيت لهم؟ قلت: مثله. وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال: يا أبا بكر! ما أبقيت لأهلك؟ فقال: أبقيت لهم الله ورسوله. قلت: لا أسبقه إلى شيء أبداً.".

ولكن بما أن محي الدين لم يكن بعدُ قد التزم مع شيخ يثق به، شاور بذلك والده وأعطاه كلَّ ما يملك من طوع نفسه: "وهكذا كان خروجنا عمّا بأيدينا، ولم يكن لنا شيخ نحكّمه في ذلك، ولا نرميه بين يديه، فحكّمنا فيه الوالد رحمه الله لمّا شاورناه في ذلك، فإنّا تركنا ما بأيدينا ولم نسند أمره إلى أحد، لأنّا لم نرجع على يد شيخ، ولا كنت رأيت شيخاً في الطريق، بل خرجت عنه خروج الميت عن أهله ومالِه. فلمّا شارونا الوالد وطلب منّا الأمر في ذلك، حكّمناه في ذلك، ولم أسأل بعد ذلك ما صنع فيه إلى يومي هذا. هذا ما يعطي حكم ذوق النفس ولا بدّ منه لكل طالب..".

ثم يقول إن أصل ذلك هو: "إتيان أبي بكر بجميع ما يملكه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، حين قال له ائتني بما عندك، وأتاه عمر بشطر ماله، فإنه صلّى الله عليه وسلّم ما حدّ لهم في ذلك، ولو حدّ لهم في ذلك ما تعدّى أحد منهم ما حدّه له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وإنما أراد صلّى الله عليه وسلّم أن تتميز مراتب القوم عندهم فقال لأبي بكر: "ما تركت لأهلك؟" فقال: "الله ورسوله" وهذا غاية الأدب، حيث قال "ورسوله"، فإنه لو قال: "الله" لم يتمكن له أن يرجع في شيء من ذلك، إلاّ حتى يردّه الله عليه من غير واسطة حالاً وذوقاً. فلما علم ذلك قال: "رسوله"، فلو ردّ إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من ماله شيئاً، قَبِلَهُ لأهله من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإنه تركه لأهله فما حكّم فيه إلاّ من استنابه ربّ المال. فانظر ما أحكم هذا وما أشد معرفة أبي بكر بمراتب الأمور. وتخيّل عمرٌ أنه يسبق أبا بكر في ذلك اليوم، لأنه رأى إتيانه بشطر ماله عظيماً. ثم قال رسول الله صلى الله عليهم وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: "ما تركت لأهلك؟" قال: "شطر مالي"، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "بينكما ما بين كلمتيْكما". قال عمر: "فعلمت أني لا أسبق أبا بكر أبداً". والإنسان ينبغي أن يكون عالي الهمّة يرغب في أعلى المراتب عند الله ويوفى كل مرتبة حقها؛ فلم يرد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أبي بكر شيئاً من ماله تنبيهاً للحاضرين على ما علمه من صدق أبي بكر في ذلك، فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد عَلم منه الرفق والرحمة، فلو ردّ شيئاً من ذلك عليه، تطرّق الاحتمال في حق أبي بكر أنه خطر له رِفْقُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فعوّض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أهل أبي بكر بما يقتضيه نظره صلّى الله عليه وسلّم. وجاءه عبد الرحمن بن عوف بجميع ماله فرده عليه كلّه وقال: أمسك عليك مالك.".

محاسبة النفس وتقييد الخواطر في دفتر

إن التصوّف يعتمد كما رأينا بشكل أساسي على تصفية القلب وتزكية النفس، وهذا أمر ليس من السهولة بمكان، بل يتطلّب الكثير من الجهد والمراقبة والمتابعة والشدّة. ومن ضمن الوسائل المتبعة لتزكية النفس ومراقبتها ومحاسبتها على أفعالها تقييد الخواطر التي تخطر على القلب، حتى يستطيع الإنسان تقويم نفسه فيحارب الخواطر الضارّة ويثابر على الخواطر النافعة..

لقد ذكر الشيخ محي الدين ابن العربي أنّ بعض أشياخه كانوا يحاسبون أنفسهم على ما يتكلمون به وما يفعلونه ويقيّدونه في دفتر، فإذا كان بعد صلاة العشاء وخلوا في بيوتهم، حاسبوا أنفسهم وأحضروا دفترهم ونظروا فيما صدر منهم في يومهم من قول وعمل، وقابلوا كلّ عمل بما يستحقه؛ إن استحق استغفاراً استغفروا، وإن استحق توبةً تابوا، وإن استحق شكراً شكروا، إلى أن يفرغ ما كان منهم في ذلك اليوم، وبعد ذلك ينامون. ويضيف الشيخ محي الدين أنه كان يفعل ذلك، وزاد عليهم في هذا الباب بتقييد الخواطر؛ فكان يقيّد ما تحدثه به نفسه وما تهمّ به، بالإضافة إلى كلامه وأفعاله. وكان يحاسب نفسه مثلهم في ذلك الوقت، ويحضر الدفتر ويطالبها بجميع ما خطر لها وما حدّثت به نفسها، وما ظهر للحسّ من ذلك، من قول وعمل، وما نَوَتْهُ في ذلك الخاطر والحديث؛ وبذلك قلّت عنده الخواطر والفضول إلا فيما يعنيه. فهذا من فائدة الاشتغال بالنية، وهو ذو فائدة عظيمة ولكن يغفل أكثر أهل الطريق عن ذلك، وهو راجع إلى مراعاة الأنفاس وهي عزيزة. وأصل هذا العمل هو في الحقيقة من أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قوله: "حاسبوا أنفسكم".


* من كتاب "شمس المغرب: سيرة الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي ومذهبه"، لمؤلِّفه: محمد علي حاج يوسف، سورية، حلب: فصّلت للدراسات والترجمة والنشر، 2006.

لتحميل الكتاب: https://drive.google.com/drive/folders/0B_5U4cCy-A_lMG9BN0JJTUxxTU0

تم عمل هذا الموقع بواسطة