8 قراءة دقيقة
رسالة "كيفيّةِ التَّوَجُّهِ الأَتَمِّ الأَوَّليِّ نَحْوَ الحَقِّ جَلَّ وَعَلا" لأبي المعالي صدر الدين القونوي


رسالةُ

كيفيّةِ التَّوَجُّهِ الأَتَمِّ الأَوَّليِّ نَحْوَ الحَقِّ جَلَّ وَعَلا*

لأبي المعالي صدر الدين القونوي**


وضعتْ حواشيه: 

مليحة مَسْلَماني 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

| وبه نستعين |

الحمدُ للِه المُنْعِمِ على الصّفْوَةِ[1] من عبادِه بِمَزِيَّةِ الاجْتِباء[2]، الباذلِ لهم جزيلَ المِنَحِ وسوابغ النَّعماء، الذي أخرجَهم من باطنِ الوجودِ العِلْمِيِّ، وظلامِ الإِمْكانِ العَدَمِيِّ[3]، إلى ظاهرِ عَرْصَةِ[4] الوُجودِ العَيْنِيّ[5]، مَجْمَعِ الأنوارِ والأضواء، وقَطَعَ بهم الأطوارَ والأدوارَ، رسومَ مراتبِ الاستيداعِ والاستقرارِ المُنبَّه عليها في أشرفِ الأنباء[6].  

ثُمّ نَقَلَهم من ضيق السَّدِّ البشريِّ وتَشْغِيبِه[7]، وسُدْفةِ[8] اللُّجِّيِّ[9] الطبيعيِّ العنصريِّ وتركيبه، في سفنِ العنايةِ والتَّصديق، وعلى بُراقِ العملِ الصالحِ والتَّوفيق، حتى حطُّوا رحالَهم وألقَوْا مَراسِيَهم بمقامِ حقِّ اليقينِ[10] والجَلاء، وكَحَّلَ أبصارَهم وبَصائِرَهم بِنورِه، فعَرَّفَهُم بِسِرِّ جَمْعِهِ بينَ أَوَّليَّتِهِ وآخِريَّتِه، وبُطونِهِ وظُهورِه[11]، فَرَأَوْا أنّه الوِجْهَةُ والمعبودُ في كلّ افتراقٍ وائتلاف، والمقصودُ بكلِّ اتّفاقٍ واختلافٍ واقعٍ بين العالَمِين من أهلِ السّعادة والشّقاء[12]، فَخَلَصوا من غَياهِبِ الشكوكِ والحَيْرةِ والمِراء[13]، واهتدَوْا لما اختُلِفَ فيه من الحقِّ بإذنه[14]، بل بِهِ؛ فَشُفُوا من كلِّ الأسقامِ والأدواء[15] ﴿أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[16]. 

وصلوات الله تَتْرى على إِمامهم وقدوتهم وعلَّامهم، مفتاحِ قُفْلِ الإنشاء[17]، وخاتَمِ ذروة السّيادة والاعتلاء[18]، مُحمَّدٍ سيّد الأنبياء، وعلى آلهِ والكُمَّلِ من إخوانه ووَرَثَتِه[19] حاملي الأمانة الإلهيّة واللواء، وحُفَّاظ جميعِ طُرقِ التَّلَقّي والإلقاء، وعلى أهل التّحقيق والوَلاء إلى يوم الجَمْعِ واللقاء. 

أمّا بَعْدُ، فهذه عُجالةٌ تتضمَّن التَّعريفَ بكيفيّةِ التوجُّهِ الأتمِّ الأوَّلِيِّ نحوَ الحقِّ جلَّ وعَلا، وكيفيّةِ تخليصِ العزيمةِ وتحريرِ المَطْلَب، حالَ القَصْدِ إليهِ والإقبالِ بوجهِ القلبِ عليه، وبيان الصِّراط الأَقْوَم، والطّريقِ الأَقْصَد الأَمَمِ[20]، الذي اختاره الحقُّ لِصَفْوَتِهِ من الأَنام، ونبَّهَ عليه في شَرْعِهِ الذي أرسل به نبيّه محمّدًا خيرَ الأنبياء عليه وعليهم الصّلاة والسلام.

وأوضِّح فيها ــ إن شاء الله تعالى ــ سرَّ الذِّكر والحضور[21]، وتفريغَ المحلِّ[22] لمواجهةِ حضرةِ الحقِّ العَلِيِّ الكبير، وكيفيّةَ الانتقالِ من ظاهرِ الذِّكرِ إلى باطِنِه[23]، ثُمَّ الجمع بين ما بَطَنَ وظَهَرَ[24]، وَتَعَدّي ذلكَ كُلِّهِ إلى الفراغِ الآتي ذِكْرُه؛ لاسْتِجْلاءِ الحقّ المَسْتور عن الخَلْقِ سِرُّه، بقلبٍ خالٍ عمّا سواه، ليس لصاحبه وِجْهَةٌ إلا إيَّاه.

وأشيرُ أيضًا إلى أنّ هذا التّوجّه ممّا ينتفع به: المبتدئُ، والمتوسّط، والعارف المحقِّق، ما عدا الكُمَّل من عباد الله تعالى؛ فإنّ لكلٍّ منهم شأنًا يَخُصُّه، وخبرًا يُخفيه وقتًا ويَنُصُّه، ليس هذا مَوْضِعَ ذكرِه، ولا هذا مقامُ بيانه وكشفُ سرِّه. والله وليُّ الإحسان والتّوفيق لأَحْمَدِ نهجٍ وطريق.

 

المُقدِّمة التي يُبْتَنى عليها تقريرُ كيفيّة التّوجُّه الأعلى وشَرائِطِه ولوازمه

اعلم ــ أيّدنا الله وإيّاك بتسديده، ونَظَمَنا في سِلْكِ المُقرَّبين من عبيده ــ أنّا لا نشكُّ بأجمعنا، أنّ لنا مستندًا في وجودِنا هو خالقُنا وخالقُ كلِّ شيء، ولا نشكّ أيضًا أنّه أشرفُ مِنَّا، وسيَّما من حيث افتقارنا إليه في استفادة وجودِنا منه أوّلًا، وفي إمدادهِ إيّانا بما به بقاؤنا ثانيًا، وما نحتاج إليه في تخليصِ نفوسنا من الشَّقاء وموجِباته وأسبابه، وتحصيلِنا أسبابَ الفوز بالسَّعادة ومقامِ القُرْبِ منه، ومعرفةِ كيفيّة قَرْعِ باب حضرته العُليا، التي بالدُّخول فيها تحصل السَّعادة القُصوى؛ فإنّه الغنيُّ عنّا وعن مثل ما افتقرنا إليه، ذاتًا وَصِفَة؛ فإنَّ النَّقْصَ والفقر والانفعال من صفاتنا، كما أنَّ الفِعْل والغِنى والكمالَ ذاتيٌّ لهُ ومن صفاته.

وقد أخْبَرَنا على ألْسِنَةِ سُفَرَائِهِ، صَلَواتُ الله عليهم، أنَّه خلقنا لعبادته، وأراد منَّا لَنَا التحقُّقَ بعبوديَّتِه ومعرفته، وأَمَرَنا بتوحيده، وَرَغَّبَنا في الحُظْوَةِ به، وطلبِ السّعادةِ بالإقبال عليه، والتّوجّهِ الأخلصِ من الشِّرْك الخَفِيِّ والجَلِيِّ إليه، سبحانه وتعالى، وحذَّرَنا من الغفلةِ والنِّسيان، والاغترارِ بتساويل النَّفْس الأمّارة بالسّوء ووساوس الشّيطان، وَنَدَبَنا للتَّعرّض لنَفَحَات جُودِه، وَوَعَدَنا بالإجابةِ إذا دَعَوْناه، وبَذْلِهِ لنا المِنْحةَ الخالصةَ المخزونةَ في غيب خزائنِ وجوده.

فَوَجَبَ على كلِّ مؤمنٍ عاقلٍ منّا، طالبٍ خلاصَ نفسه، راغبٍ في تحصيلِ مقامِ القربة[25] في المَرَاتبِ العَلِيَّةِ من حَضراتِ قُدْسه، أن يهتمّ ويعزمَ على التوجّه إليه ــ سبحانه ــ بقلبه الذي هو أشرف ما فيه؛ لأنّه المتبوعُ لما يشتمل عليه نسخةُ وجودِه من صور العالم ومعانيه، ولأنّه كما ــ أخبرنا ــ محلُّ نَظَرِ الحقِّ، ومِنَصَّةُ تَجَلِّيه[26]، ومَهْبِطُ أَمْرِهِ وَمَنْزِلُ تَدَلِّيه[27]. 

لكن، ينبغي لك أن تعلم أنّ القلبَ ليس عبارة عن المُضْغَةِ الصَّنَوْبَرِيَّة، فإنّها ــ وإن سُمِّيَتْ قَلْبًا ــ فإنّما تلك التّسميةُ على سبيل المجاز، وباعتبار تسمية الصّفة والحامل باسم الموصوف والمحمول، وإلا فكلُّ عاقل يعلم أنّ القلب الذي أخبر الحقُّ على لسانِ نبيّه، عليه الصلاة والسلام، بقوله: "ما وَسِعَنِي أرضي ولا سمائي، وَوَسِعَني قلبُ عبدي المؤمن التّقيِّ النّقيِّ".

ليس هو هذا اللحمُ الصَّنَوْبَرِيّ الشّكل؛ فإنه أحقر ــ من حيث صورتُه ــ أن يكون محلَّ سِرِّه ــ جَلّ وعَلا ــ فضلًا عن أن يسعه ويكونَ مَطْمَحَ نَظَرِهِ الأعلى ومُسْتَواه.

 

القلبُ الإنسانيّ

وإنّما القلبُ الإنسانيُّ: عبارة عن الحقيقة الجامعة بين الأوصاف والشؤون الربّانيّة، وبين الخصائص والأحوال الكَوْنِيّة، الرُّوحانِيّة منها والطّبيعيّة، وهي ــ أعني حقيقة  القلب ــ تنشئ عَرْصَتها، وتنبسطُ أحكامُ حَضْرَتِها، وتظهر من بين الهيئة الاجتماعيّة الواقعة بين الصّفات والحقائق الإلهيّة والكونيّة، وما يشتمل عليه هذان الأصلان من الأخلاق والصّفات اللازمة، وما يتولّد من بينهما، بعد الارتياض والتَّزْكِية، وزوال الأحكام الانْحِرَافيّة بِغَلَبَةِ الاعتدال الربّانيِّ الحاكم على الاعتدال الرُّوحانيّ والطبيعيّ الصُّوَرِيِّ العُلْوِيِّ الملكيِّ والفلكيّ، والاعتدال السُّفْلِيّ العنصريّ، فتظهر الحقيقةُ القلبيّة ظهور السّواد بين العَفْصِ والزّاج[28] والماء، وكظهور النّار بين الحجر والحديد. فتلك الصّورة الظاهرة من بين ما ذكرنا هي صورة الحقيقة القلبيّة الموصوفة بما وُصِفَ به الحقُّ والعالم. والقلبُ الصَّنْوَبَرِيّ مَنْزِلُ تَدَلِّي تلك الصورة ومِرآتُها. 

والناس ــ فيما ذكرتُ ــ على درجاتٍ عظيمة التّفاوت؛ من عرف كُلِّيَّاتها عرفَ حقيقة الإسلام والإيمان، والولاية، والنُّبوَّة، والرّسالة، والخلافة[29]، والكمال، والقَدْرِ المشترك بين جميعها، وما يتميّز كلُّ واحد من هذه عن الأخرى، فافهم.

ثم أقولُ: فالسّيْرُ والسّلوكُ والرّياضة من كلِّ سالِك، هو لتحصيل الهيئة الاجتماعيّة الاعتداليّة الواقعةِ بين أحكام العلم والاعتقاد الصحيح، وبين الأعمال والأخلاق والصّفات على مقتضى الموازين العقليّة والشرعيّة؛ لظهور عَيْنِ الصّورة القلبيّة وحُكْمِها؛ فإذا ظهرتْ من حَيْثِيَّةِ صِفَةِ الطالبِ المُتَوَجِّه حالَ غَلَبَةِ حُكْمِ صفته المقتضية للطلب على باقي صفاتها التي تشتمل عليها ذاتُه، فتوحَّدَتْ عزيمتُه وإرادته بموجب الأمر الباعث له على الطلب، قَصَدَ، حَالَتَئِذٍ، تفريغَ قلبه بِطَرْزٍ[30] آخر؛ فإنّ التوجّهَ الأوّل هو توجّه جُمْلِيٌّ لمحبّةٍ ذاتيّةٍ غيرِ معلومةِ السّببِ والعلّةِ، ليس لها مُتَعَلَّقٌ مُتَعَيِّنٌ عند التّوجِّه في بدءِ أمره وطلبه، وهذه العلامة أصحُّ العلامات بالنسبة إلى أهل الاستعداد التّامّ؛ فإنّ أحكام المناسبات الذاتيّة غيرُ مُعَلَّلَةٍ.

وأمّا هذا التّوجّه الثّاني، فهو عبارة عن التّوجّهِ إلى الحقِّ على ما يَعْلَمُ نَفْسَه، غيرَ مُتَقَيِّدٍ بالتّنزيه المسموع أو المَظْنون، وكذلك التّشبيه، بل يكون توجّهًا مُطْلَقًا جُمْلِيًّا هَيُولانِيَّ[31] الوصف، قابلًا كلَّ صورةٍ وأَمْرٍ يَرِدْ عليه من الحقّ، ظاهرًا عن نَقْشِ كل اعتقادٍ مُسْتَحْسَنٍ أو مُسْتَنْكَرٍ، جازمًا أنّ الحقَّ كمالُهُ كمالٌ ذاتيٌّ مستوعِبٌ جميعَ الأوصاف الظّاهرة الحُسْنِ والخَفِيَّة منها، لا يحيط بسرِّه عقلٌ ولا فكرٌ ولا وَهْمٌ ولا فَهْمٌ، بل هو كما أخبرَ وأَشْهَدَ وعَرَّفَ وظَهَرَ لكلِّ من شاء كما شاء؛ إن شاء ظهر في كلِّ صورة، وإنْ لم يشأ لا ينضاف إليه صورة؛ فلا اسمَ ولا رَسْمَ. وإن شاء صَدَقَ عليه كلُّ حُكْمٍ وسُمِّيَ بكلّ اسمٍ، وأُضيف إليه كلُّ وصفٍ. وهو المُقدَّسً على كلِّ حالٍ عن كلِّ ما لا يليق بجلاله، ليس بِمُنَزَّهٍ عمّا هو ثابتٌ له لذاته، بشرطٍ أو بشروطٍ أو بدونها. 

فإذا صرتَ ــ يا أخي ــ كذلك، وتقرَّر هذا العَقْدُ في نفسك، وانْمَحَتْ كثرةُ أحكامك المختلفة في وَحْدَةِ توجُّهِك، دون نَقْشٍ وتَعَشُّقٍ بشيء أو التفاتٍ إلى أمر، حينَئِذٍ تَثْبُتُ المناسبةُ بينك وبين حضرة القُدُس، وحالتئذٍ تكون قد تهيّأتَ لتجلّي الحقّ، ولأن تكونَ مَنْزِلَ تَدَلِّيهِ ومِنَصَّةَ تَجَلِّيه، فافهم. 

ثُمَّ اعلم أنّ منبعَ قوى الإنسان الطّبيعيّة والمزاجيّة، وما يتبعها من الصّفات والأخلاق والأفعال، قلبُه، وهو مرآة الرّوح الإلهيّ المُفارِقِ المُدَبِّرِ للبَدَن، لكن بواسطة الرُّوحِ الحيوانيِّ المحمول في الصّورة الضّبابيّة الحاصلة في التجويف الأيسر من القلب الصَّنوبريّ المذكور. والرّوحُ الإلهيُّ المشارُ إليه من حيثُ القلبُ المذكور الجامع بين خواصّ الرّوح وخواصّ المزاج، مرآةٌ للسرِّ الإلهيّ المشار إليه بقوله: "وَوَسِعَني قلبُ عبدي المؤمن". 

فَمَنْ شَعَّبَهُ للمطالبِ الكونيّة شُعَبًا، وَفَرَّقَهُ شِيَعًا، بحيث إنّه يصير مُخَصِّصًا لكل مطلب جزئيٍّ من تلك المطالب منه حِصَّة؛ فإنّه يَهْزُلُ هُزالًا معنويًّا كما يَهْزُلُ البَدَنُ؛ لِفَرْطِ التّحليلِ الذي لا يُخْلِفْ بَدَلَ ما يَتَحَلَّل، وكما يَضْعُفُ ماءُ النّهرِ العظيمِ إذا قُسِّمَ جداول شتّى، فَيُضْطَرُّ إلى طلبِ الاسْتِمْدادِ والتَّقَوِّي بأمورٍ خارجيّة، طالبًا إيصالَها إلى نفسه واتِّصالَها به، كما هو الأمر في التَّغَذِّي مع الغذاء، وتأبى الحقيقةُ من حيث المعنى ذلك، كالضعيفِ المَعِدَة والسّاقطِ القُوى، إذا رامَ إخْلافَ ما تحلَّلَ مِنهُ بغذاءٍ يقصدُ تناولَه؛ فإنّه لا ينتفعُ به؛ لعدمِ مساعدة الطبيعة على تحصيل المقصود منه. 

ونظيرُ الطّبيعة في عالم الحقائق الاستعدادُ، فإنّه ما لم يكن استعدادٌ لا يُجْدي اجتهادٌ. فإن اقتصرَ الإنسانُ في أوّلِ أمرهِ على ما حَوَتْهُ ذاتُهُ ممّا أَوْدَعَ الحقُّ فيه، وَحَفِظَ قلبَهُ وسرَّهُ الكُلِّيَّ من التَّوزُّعِ، والتَّشَتُّتِ، والتَّشَعُّبِ بالتَّعلُّقات بالمطالب الجزئيّة الكونيّة، كانَ غِناهُ وقواه الطبيعيّةُ والرّوحانية، ثمّ الإلهيّة وثمراتُها، أَوْفَرَ وأَتَمَّ ممّا قَصَدَ الاستعدادَ والتَّقَوِّيَ به من خارج. 

وإنّما جَهِلَ كمالَهُ الذّاتِيَّ المُسْتَجِنَّ[32] فيه؛ فتَصَدَّى لطلبهِ وتحصيلهِ من خارج، ولو هُدِيَ سواء السّبيل، لَعَلِمَ أنّ مُتَعَلِّقَ الطّلب الأعلى، تفصيلُ مُجْمَلاتِهِ وبُروزُ مُسْتَجِنَّاتِه، بخروجِ ما في القوّة إلى الفعل، وجَمْعِ ما انبثَّ من صفاته وقواه بالتَّوَزُّع والتَّكَثُّرِ والاختلافِ الانحرافيِّ، إلى التّوحيدِ الاعتداليِّ، والرّجوعِ إلى أصلِ كلِّ اعتدالٍ من الاعتدالات الأربعة المذكورة، ثمّ إلى الأصل الأَحَدِيِّ الجامع للجميع؛ لِيَلْتَحِقَ كلُّ فرعٍ بأصله، وتتّحِدَ الأصولُ بأصْلِ الأصل، وتَكْمُلَ الأجزاءُ بالكلِّ، ولكن حُجِب عن ذلك؛ لظهورِ حُكْمِ تمييزِ القَبْضَتيْن، وتحقيق الكلمتيْن و﴿لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً﴾[33] فافهم، واعرفْ ما ينبغي لك أن تطلبه وتُحَصِّله، تَنْمِيَةً وتَثْمِيرًا، وما ينبغي لك أن تَنْسَلِخَ وتتجرَّدَ عنه، تَزْكِيَةً وتطهيرًا، يَقْرُبُ لكَ الأمر، ويُخْتَصَرُ لك الطّريقُ بعون الله ومشيئته. 

 

فصل في كيفيّة التَّنَقُّلِ في مَراتبِ المذكور ولوازِمِه 

الدّرجة الأولى: دفعُ الخواطرِ[34] بِدَوامِ الذِّكر الظَّاهرِ بِجِدٍّ وجَمْعِيّةٍ، دون فترةٍ ودون إزعاجٍ للمِزاج، بل بحضورٍ مع الحقّ، ومراقبته له على ما يعلم من نفسه، كما مرَّ.

فإذا خَفَّتِ الخواطرُ وزالت، نطقَ القلب بالذِّكر الذي أنتَ عليه أو بذكرٍ آخر، تُعَيِّنُهُ لكَ من الحقِّ حالُك لِعِلْمِه ــ سبحانه ــ أنّه الأنفعُ لك، حالتئذٍ، فحضرْتَ معهُ وتَرَكْتَ الذِّكرَ ظاهرًا، هكذا، حتّى تُحِسَّ بإِمْكانِ خُلُوِّ الباطنِ من الذِّكرِ المُتَجَدِّد، وأيضًا متى شئت، وتشعر بأنّك قادرٌ على ذلك، فاجْهَدْ في تفريغ باطنك من الذِّكر الباطن، واستعمل نَفْسَكَ في الفراغ من الذِّكر الظّاهر والباطن معًا، فإنّك تَجِدُكَ قادرًا عليه ساعة أو دون ساعة، ثُمَّ تُزاحِمُكَ الخواطرُ، فإن قَدِرْتَ على دفعها بعزيمتك وإعراضك عنها وعمّا يُوجِبُها، فادفعها بذلك، وإلا فَعُدْ إلى الذِكر بقلبك بِتَعَقُّلِ الحروفِ لا بِتَخَيُّلِها، كما تُحَدِّثُ نَفْسَك بما تريد أن تفعله، وإن قَوِيَتْ زحمةُ الخواطر، فاجمع بين ذكر الظّاهر وحضور الباطن معًا دون فترة، أو غالب الأوقات، هكذا.

وكلّما واظبْتَ على ما ذكرتُ لك، يزيد فراغُك وينمو، حتى يغلبَ الخواطرَ ويدفعَها. واستعمل نَفْسَكَ وقلبكَ بما ذكرتُ لك دائمًا، ولو كنتَ فيما عسى أن تكون فيه من الأشغال، ما عدا زمان نُطْقِكَ بالحديثِ مع النّاس، فإن تَعَيَّنَتْ لك قضيّةٌ توجبُ الاشتغالَ بشيءٍ غيرِ ما أنت فيه أو مصلحةٍ، فَسَمِّ اللهَ بحضورٍ وتوجّهٍ في أوّلِ الأمر، ثمَّ اشرَعْ فيما تريد الشُّروعَ فيه من حديثٍ أو فكرٍ أو فعلٍ، وقل: "اللهمَّ كُنْ وِجْهَتي في كلِّ وِجْهةٍ، ومَقْصدي في كلِّ مَقْصدٍ، وغايتي في كلِّ سَعْيٍ، ومَلْجَئي ومَلاذي في كلِّ شِدّةٍ ومُهِمٍّ، ووَكيلي في كلِّ أمرٍ، وتَوَلَّني تَوَلّي مَحَبَّةٍ وعِنايةٍ في كلِّ حالٍ". 

ثمّ باشِرْ ما قُدِّرَ لك مباشرته، واقصدْ في خلال أحوالك الدُّنياويّة التّيقُّظَ بالذِّكر، والالتفاتَ إلى الحقِّ فيما أنتَ فيه، كما قال الله ــ سبحانه وتعالى ــ لحبيبه عليه السلام: ﴿وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ﴾[35]، يعني: بين الغدوِّ والآصال؛ أي: لا تقتصر على حفظ الطّرفيْن اللذيْن هما الأوّل والآخر، وإن كان ذلك مُجْدِيًا وكافيًا لغيرك، واذكر قولَه تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾[36]، واتَّبِعْ ولا تَبْتَدِعْ.  

ومتى جعلتَ هذا دَيْدَنَك[37]، نَمَا حضورُك وتقوَّمَتْ سلطنةُ ذِكْرِك، وظهرَ وَلَدُ قلبِكَ من مَشيمَةِ طَبْعِك، وتَطَهَّرَتْ صفاتُك وأخلاقُك، وزَكَتْ نَفْسُك، واتَّسَعَتْ مرآةُ قلبِك، واعتدلَ سطحُها بتوحيدِ كَثْرَتِها وصِحّةِ شكلِها وهَيْأَتِها، فَسَلِمَتْ وخَلَصَتْ مِنَ النُّتُوِّ[38] والتَّقْعِير، وناسَبَتْ حضرةَ ربِّك في الوَحْدَةِ والسَّعّةِ والإطلاقِ والتَّقْديس، وتَنَزَّهَتْ عن كُدوراتِ كثرةِ التَّعَلُّقاتِ العِشْقِيَّةِ الكونيّة والتَّدْنيس.  

فإن تمكَّنْتَ فيما ذكرتُ لك، فُتِحَ لك بابٌ آخرُ بينك وبين ربِّك، لا حُكْمَ للوسائط فيه وعليه، منه تعلمُ ما أنت فيه وما تكون عليه، وما تعامِلُ به الحقَّ والخلقَ وما تؤول إليه.

وليكن هذا التَّوجُّهُ المذكورُ حالَكَ في كلِّ توجّهٍ تتوجَّهُ إلى ربِّك في عبادتك، على اختلاف ضُروبِها، وفي دعائِك والتجائِك إلى ربِّك في مهمَّاتِك الجزئيّة والكُلِّيّة ﴿وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ﴾[39].

 

تَتِمّة: تتضمَّن مزيدَ إيضاح لِما أُجْمِلَ ذِكْرُه من قبْلُ 

اعلمْ أنّ سرَّ التَّدَرُّجِ في الذِّكر والتّوجّهِ والتَّرَقِّي، هو لإحياءِ حقيقةِ المُناسبةِ الثّابتةِ أَزَلًا بين الحقِّ وعبدِه؛ أعني المُسْتَهْلَكَةَ الآن والمَحْجُوبةَ بأحكام الخَلْقِيّة، والخواصِّ والصّفات المختلفة الإمكانيّة. وإنّما تَصِحُّ وتَصْلُحُ وتَخْلُصُ بِقَطْعِ التَّعَلُّقات الظَّاهرةِ والباطنة، وتفريغِ القلبِ من جُمْلَةِ الارتباطات الحاصلة بعد الاتّحادِ بين الإنسانِ وبين الأشياءِ كلّها، ما عُلِمَ منها وما لَمْ يُعْلَم.

ثُمَّ تَهْيَئَتِهِ ــ أعني تهيئةَ القلبِ ــ بِمُوجبِ حُكْمِ أَحَدِيَّةِ جمعِ الهيئة المتحصِّلة من تَأَلُّفِ الصِّفات، والأخلاق، والعلوم، والاعتقادات، والمقاصد، والبواعث، والتّوجُّهات الناشئة من اتّصالِ نَفْسِ الإنسانِ بالبدنِ العنصريّ، وامتزاج قُوى كلِّ واحدٍ منها بالآخر، وغَلَبَةِ بعضها بعضًا، فعلًا وانفعالًا، بِمَحْضَاتِ المُجاهدات، وتهذيبِ الأخلاقِ بالرِّياضات، وإزالةِ أحكام الانحرافات العارضة من خواصِّ الاجتماع الواقع بين القُوى المزاجيّة، والصّفات النَّفْسانيّة؛ فإنّ المقصود إنّما يحصلُ بتطهير المُلَوَّثَةِ وإتمام النّواقصِ منها؛ أي من تلك الصّفات المجتمعة من خواصّ الطبيعة والرُّوح وما ذكرنا، ونقلِها من حيث تعلُّقاتُها ومصارفها المعتادة، وردِّها من درجات انحرافاتها الخارجة عن حَيِّزِ اعتدالها، إلى نقطةِ مركزِ دائرةِ الكمالِ الخِصِّيصِ بها لِيّتِمَّ تسويتُها وتعديلها، وتستعدَّ للنَّفخة الثَّانية؛ فإنّها كما استعدَّت بالتَّسوية والتَّعديل الأوّل لِنَفْخِ الرُّوح فيها، وكذلك تستعدُّ بهذه التّسوية والتّعديل الثّاني الواقعِ مزاجُها المعنويُّ بين خصائص النَّفْس الناطقة، وبين خصائص بدنه العنصريّ، المُعَبَّرِ عنها بالأخلاق والصّفات والعلوم والعقائد والبواعث والتَّوجُّهات، وغيرِ ذلك من النِّسب والإضافات المُضافة إلى الجناب الإلهيِّ والكون، انفرادًا واشتراكًا، للنّفخة الثّانية. وحينئذٍ يظهرُ بهذا الاستعداد والتّهيُّؤِ الجزئيِّ الوجوديِّ سِرُّ الاستعدادِ الكُلِّيِّ، الذي به قَبِلَ هذا السّالكُ الوجودَ من مُوجِدِهِ أوّلًا.

فإذا تَمًّ ذلك، حصلت النّفخةُ الثّانية من جانب الحقّ، حاملةٌ سرًّا ثانيًا يُعبَّرُ عنه تارةً بالتّأييد القدسيِّ في حقّ قوم، وبالتَّنُزُّلات المَلَكِيّة والمُنازَلات في حقّ قوم، وتَجِلِّيات الأسماء والصّفات في حقّ قومٍ آخرين. ثمّ بعد ذلك يكون التّجلّي الذاتيُّ المستلزِم لِما لا ينقال، وما لا يَعْرِفُ سِرَّهُ، من غير الكُمَّل، ذو علم أو ذوق معيَّن ولا حال. 

وإذا عرفتَ هذا، فاعلم أنّ قلوبَ أكثر النّاس إنّما ظُلْمَتُها وكثرة صَدِئِها ــ كما قلنا ــ من التَّعَلُّقات الشّهوانيّة والأحكام الإمكانيّة. والمناسبةُ التي بينها وبين الحقِّ إنّما ضَعُفَتْ لذلك؛ فلهذا كان الانتقالُ مَمّا هم فيه إلى الحالة والصّفة التي تليق وتصلح أن تواجه بها حضرةَ الحقّ، وتَثْبُتَ بها المناسبةُ ويجيء حكمها متعذِّرًا؛ سيَّما إذا أُريدَ أن يكون ذلك دفعةً واحدة؛ لأنّ الحالة الأولى لها: الكَدَرُ والظُّلْمَةُ والنّقصُ والكَثْرة، ولجناب الحقِّ أضدادُ هذه الأربعة، وهي: النُّوريَّة والصَّفاء والكمال والوحدة. وسرُّ الحقّ ــ وإن كان مُسْتَجِنًّا في كلِّ أحد، بل في كلِّ شيء، ومصاحبًا له ومحيطًا به ــ فإنّه محجوبٌ بالأحكام الإمكانيّة الظُّلمانيّة وصفاتها الوجوديّة، كما مَرَّ. 

فمن وجدَ في نفسه طلبًا للحقّ، أو لِمَا لديه، فإنّما يطلبه وينبعث له بما فيه من الأمر المطلوب؛ لأنّه يستحيل ــ عندنا ــ أن يطلب الحقَّ أو يحبَّه سواه، ويصلَ إليه ما ليس منه.

وهكذا الأمر في كلِّ مطلوبٍ مع كلِّ طالبٍ، فَسِرُّ طلب الحقِّ ــ في زعم كلِّ طالبيه ــ عبارةٌ عن طلب الحقِّ المقيَّد المُسْتَجِنِّ في الطالب، مع الكمال النسبيِّ الخِصِّيص به، متى رقَّ بعضُ حُجُبِه أو قَلَّتْ، طَلَبَ ــ أعني ذلك السرَّ ــ الاتصال بالحقِّ المطلق وكماله الحقيقيّ؛ لِلُحوقِ فرعٍ بأصل، وإظهار كمال الكلِّ بالجزء الذي به يثبت اسمُ الكلِّ للكلِّ، فإنَّ الامتياز إنّما حصل من حيث إنّها عُرِضت بينهما مفارقة نسبيّة من بعض الوجوه.

 

فَصْل 

ولمّا بَعُدَتِ المناسبةُ بين حال بواطن النّاس، وبين جناب الحقّ وشأنه ــ لِمَا ذكرنا ــ ووجدَ الإنسانُ في قلبه الباعثَ على الذي ذكرتُ سبَبَه ومقتضاه، لم يكن ذلك إلا بالتدريج ــ كما أشرتُ إليه ــ لزمَ الشُّروعُ أوَّلًا مّما الإنسانُ فيه من الحال، إلى مفارقة صورة الكثرة شيئًا فشيئًا، وذلك بالانفراد أوّلًا والانقطاع، لِيَحْصُلَ ضَرْبٌ ما من ضروب المناسبة بين العبد وربّه، ثمّ يستعين بما ذكرنا، ويقصد تعطيلَ القوى المتكثِّرة والأحكام المختلفة، الحِسِّيّة منها والخياليّة الحيوانيّة، الحاصلة والعارضة من الخواطر جَهْدَ الإمكان، بجمع الهمِّ وتحقيق العزم، ثمّ يقصد الالتفاتَ إلى الحقّ بصورةِ ملازمةِ ذِكْرٍ من أذكارٍ يُعَيِّنُهُ المرشدُ، أو الحالُ والاستعدادُ. وأنّه ــ أي الذِّكر ــ من وجه كونيّ ومن وجه ربّانيّ؛ لأنّه من حيثُ لفظُه والنُّطق به: هو كَوْنٌ، ومن حيث مدلوله: هو حقٌّ؛ فهو كالبرزخ بين الحقّ والكون، فيحصل بذلك أيضًا ضربٌ آخرُ من ضروب المناسبة أَتَمُّ ممَّا قبله؛ فإذا تَأَنَّسَ الإنسانُ به، كان كالمفارِقِ للعالَم من أكثر الوجوه، وكالمحيي لرقيقة المناسبة الرابطة بينه وبين والحقّ؛ لتغليب حكم الوحدة الحَقِّيَّة على الكثرة الخَلْقِيَّة.

ثمّ إذا انتقل من الذِّكر الظّاهر إلى الذِّكر الباطن، ونطق به قلبُه دون تَعَمُّل ــ وسيَّما إذا نطق القلبُ بغير الذِّكر الذي يَدْأبُ عليه ــ كان بُعْدُه من صور العالَم وأحكامه المختلفة المتكثِّرة أكثرَ، وقربُه من الحقِّ الواحد ومناسبتُه معه ونسبتُه إليه أتَمَّ.

وكلّما قَوِيَت العزيمةُ، وتوفّرت الرّغبة بحصول الأُنْسِ الذي أثمره الانفرادُ وما ذكَرْنا، مع جمع الهمِّ الذي هو الأصل الأَتَمُّ، قَوِيتْ سلطَنةُ الحقِّ المُسْتَجِنِّ في الإنسان، وضعُفت فيه أحكامُ الكثرة والإمكان؛ فَتَنَوَّرَ قلبُ العبد وانْصَقَل، وتَصَفَّى من حيث صفاته، فَتَجَوْهَرَ واعتدل؛ لاستقامة سطحِ مرآته وتَوَحِّدِ كثرته، كما هو الأمر في المرآة المحسوسة التي أبرزها الحقُّ من بعض الوجوه، مثالًا لمرآة قلب الإنسان وحقيقته؛ فإنّ صفاءَها وصِقالَها إنما هو باعتدال أجزاء سُطوحِها، الحاصل بزوال ما فيها من التعدُّد والاختلاف، كالنُّتُوِّ والتَّقعير واعوجاج الشّكل والتَّشعير، فإنّ كلَّ ذلك يوجب تغيُّرَ صورة ما ينطبع فيها بالنّسبة إلى المُدْرِك الصّورةَ فيها عمَّا هي عليه خارجَ المرآة، وسيَّما إذا خالف شكلُ المرآة شكلَ الصّورة، فإنّ اعتدال المرآة بعد الصَّقل وتسوية السطوح، هو صحّة استدارتها؛ لأنّ الاستدارةَ أفضلُ الأشكال، وأقربها نسبة إلى الإطلاق وعدم التقيُّد بالشّكل والصّورة؛ ولهذا كانت الأفلاكُ وما فيها من الصُّور مستديرةً كلَّها؛ لأنّها أقربُ الاجسام نسبةً إلى الأرواح، ولا واسطة بينها وبينها؛ فإنها أوّلُ الأجسام صدورًا من الحقِّ ــ سبحانه ــ بواسطة الأرواح، فافهم. 

ثمّ نرجع ونقول: فالإنسان لا يزال مُنتقلًا ــ كما قلناه ــ من صورة الذِّكر إلى معناه وباطنه، ومن التَّلَفُّظِ به إلى نطق القلب بذلك الذِّكر أو غيره. وباطنُ الذِّكر غيرُ معناه، وأنّه عبارةٌ عن التّوجّه إلى المذكور من حيثُ كونُه مذكورًا ومُتَوَجَّهًا إليه، هكذا: درجة فوق درجة، وفي كلِّ درجة تسقطُ منه جملةٌ من أحكام كثرته وصفات إمكانه، ويُقوّي حُكْمَ وحدةِ ربّه وسلطانه. ومعنى السّقوط هنا للصفات والقوى: استهلاكُها لا ذهابها، عكسُ الحالة الأولى التي كان عليها كجمهور النّاس. 

فإذا كَمُلَ الصّفاءُ والتَّوَحُّدُ، وتلاشت أحكامُ الكثرةِ الخَلْقِيّة الإمكانيّة، ثبتت المناسبةُ بين جناب الحقِّ وبين القلب الذي هذا شأنه، فحالتئذٍ يظهر التّجلّي المستجنُّ في العبد؛ لزوال كلِّ ما كان يمنع من ذلك، ويتّصل بالتّجلّي الذي يَتَدَلَّى من الحقّ إليه، وبالأمرِ الذي يَتَنَزَّلُ عليه، فتستحيل قواه الظّاهرة والباطنة وجملة صفاته استحالةً معنويّة، فتُبَدَّل أرضُه غيرَ أرضه، وسماواته غير سماواته وكذلك ما فيهما؛ لقيام قيامته واستقامة قامته، وحينئذٍ يصيرُ تمامُ الآية أيضًا وصفَ حاله، وهو قوله تعالى: ﴿وَبَرَزُواْ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾[40] فيتغيّر اعتقاده في كلّ شيء عمّا كان عليه؛ لتغيُّر ما به يُدْرِك ما يُدْرِك، ويتلو قولَه تعالى: ﴿وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ﴾[41]. وأمّا بعد ذلك، فلا يمكن ذِكْرُه وبيانه، بل يجب سَتْرُه وكتمانه، وكلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ له.  

وما ذكرنا في هذه العُجالة ــ وإن كان أصلًا جامعًا ــ فإنّما يأخذ كلّ أحد منه ما يستعدُّ له، وما يساعده عليه وقته وحالته، و﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾[42]. 

ومن أراد استكمالَ هذه الفائدة واستثمارَها، فَلْيُضِفْ هذه التتمّة إلى ما ذُكر من قبل؛ فإنّه إن أدرك وفهم ما أدرجْتُ في هذه الكلمات، عرفَ سِرَّ الحقّ المودَعَ في الخلق، وعرف معنى غَلَبَةِ الرحمةِ الإلهيّةِ الغضبَ، وأنّهما منبعُ كلّ اعتدال وانحراف واقع في عَرْصَة المعاني والأرواح، وعالم المِثال الذي تتصوّر فيه الأرواح وتتجسّد فيه المعاني، واعتدال عالم الحِسِّ، وعرف سرَّ الولادة الثّانية التي أشار إليها الأكابر من الأنبياء والأولياء، وقد مرَّ حديثُها آنفًا.

وعرف سرَّ احتجاب الحقِّ بالخلق، وسرّ صحبة الحقِّ الخلقَ وإحاطتِه بهم وكونه معهم أينما كانوا، دون مَزْجٍ ومُلابَسةٍ وظَرْفِيّة. وعرف أيضًا كيفيّة انتشاء الخواصّ الروحانيّة في ملابس المواد الطبيعيّة، وكيفيّة تخليصها من تلك المَزْجَة، كما مرَّ ذكره في أمر الكثرة مع الوحدة الإلهيّة، واستهلاك الكثرة تحت سلطنة الوحدة؛ فإنّه معراج التحليل الذي مَنْ لم يَذُقْه ولم يشهدْهُ ولم يتحلَّل في عروجه، بحيث يترك منه في كلِّ مرتبةٍ وعالَمٍ ما يناسبه، لم يَدْرِ ما المعراج، ولم يَلِج حَضْرَةً من حضرات الحقّ أصلًا ولوجًا مُحَقَّقًا، كما ذكَرْنا في شأن ماء الوَرْدِ، المُمَثَّلِ به سرُّ الحقّ وسرايتُه في المراتب الخَلْقيّة، وعَوْدُه إلى الأصل بواسطة الأحوال المُسمّاة سلوكًا، فافهم.

وعرف أيضًا سرَّ الفناء والبقاء[43]، وسرَّ السلوكِ ومبدأَه ومُوجِبَه، وأنّ الإنسان كان عينًا فصار وصفًا، ثمّ صار خَلْقًا وسِوَى، حتى وُصف سرُّ الحقّ المودَعُ فيه بصفات الخلق، وسُمِّيَ باسمه ووصفه، وصار يطلب ذلك السرُّ الانسلاخَ بالعَوْدِ ثانيًا، عمّا تلبَّس به في إتيانه ــ أوّلًا ــ بالنسبة إلى المَدارك. 

وعرف سرَّ غلبةِ الله على أمره في مرتبة الأرواح مع الطبائع، وفي مرتبة الأخلاق والصّفات المحمودة مع المذمومة، ومغلوبيّةِ الأرواح الإنسانيّة تحت أحكام أَمْزِجَة الطبيعية، أوّلًا مع مغلوبيَّتها، ومغلوبيّةِ سائر الأرواح العلوية المقدّسة آخرًا، تحت أحكام الأسماء والصّفات الإلهيّة، واستهلاك جملة الكون تحت السَّطوة الذاتيّة الإلهيّة.

ويعرفُ أيضًا علومًا مُدْرَجَةً في هذه الكلمات غيرَ ما ذكرنا، يطول ذكرُ أنواعها، فكيف تَعْيينُها وبيانها!؟ فافهم. 

والله يقولُ الحقَّ ويهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيمٍ. الحمدُ لله على التَّمامِ، ولرسوله أفضلُ السّلام. تمّت الرسالةُ بِعَوْنِ الله وحُسْنِ تَوْفيقه.


**********

الهوامش


* نُقلت هذه الرسالة حرفيًا عن الملف التالي:

http://isamveri.org/pdfdrg/D226920/2014/2014_ODEHAY.pdf

وجاء في منهج تحقيق الرسالة: "تمّ الاعتماد على نسخ أربع؛ لإخراج هذه المخطوطة إخراجًا علميًا دقيقًا. ثلاث منها أصولها في المكتبة السليمانيّة بإستنبول، والرابعة في معهد دراسات الثقافة الشرقيّة بجامعة طوكيو في اليابان".

ملاحظة: نقلت الناسخة متن الرسالة فقط، ولم تلتزم بنقل الهوامش التي في وردت الملف، خاصة تلك التي تتعلق بالمقارنة بين بعض المفردات في النسخ المختلفة للمخطوطة.

**  صدر الدين القونوي: اسمه محمد بن إسحاق بن يوسف بن علي القونوي، ويُكنّى بأبي المعالي، ويُنعت بصدر الدين. وُلِد عام 607 هـ - 1209/ 1210 م في مدينة قونية ونشأ فيها. في كتابه "صدر الدين القونوي وفلسفته الصوفية"، يذكر إبراهيم ياسين: "وتقع الفترة التي ولد فيها القونوي من بداية القرن السابع الهجري أثناء حكم الملك كيكاوس لقونية، وهو الملك الذي شجّع ابن عربي على الإقامة في قونية، الأمر الذي جعل ابن عربي محلّ التقدير والاحترام، ودعاه للعودة إلى قونية حتى قرّ له أن يتزوج من والدة صدر الدين القونوي حوالي سنة 612 هــ.. ويُستنتج من هذا أن رعاية ابن عربي لربيبه صدر الدين كانت قد بدأت في وقت مبكّر من حياة القونوي وعندما كان طفلًا لم يتجاوز سني عمره الأولى. وهذا يفضي إلى نتيجة أخرى مؤداها أن رعاية الشيخ الأكبر للقونوي شملت الشّطر الأعظم من حياته، خصوصًا إذا علمنا أن التلميذ ظلّ مرتبطًا بأستاذه إلى أن توفّاه الله بدمشق عام 638 هـ وهي فترة تزيد على ثلاثين عامًا. وقد جعلت هذه الرفقة الطويلة من القونوي تمليذًا نابغة في طريقة أستاذه، ثم أستاذًا في طريقة شيخه.. ونحن نلاحظ أن أثر الأستاذ على ربيبه كان عظيمًا ممّا جعله متمكّنًا من شرح مُصنّفاته على أفضل وجه، وكتاب "الفكوك" االذي هو شرح الفصوص (فصوص الحِكَم لابن عربي) هو المرجع لبقية الّشروح، بل هو ــ حسب قول الأستاذ أبو العلا عفيفي ــ أعظم هذه الشروح على الإطلاق.. ولم يقتصر تأثير ابن عربي على القونوي على مجرد أخذه علوم الشيخ الأكبر أو شرحها في مجالسه، بل لقد امتد هذا التأثير ليشمل معظم جوانب حياة القونوي وفكره سواء كان ذلك في حياة الشيخ الأكبر أو بعد مماته.. أمضى القونوي الشطر الأكبر من حياته في دمشق، فقد ظلّت مقرًا له هو وأستاذه منذ انتقلا إليها في عام 620 هـ.".

ويضيف المؤلّف أن القونوي الذي اتّخذ من دمشق مقرًا له بعد وفاة ابن عربي، ظلّ يتردّد على قونية التي أحبّها كثيرًا، وأنه كان لا يلبث أن يعود إلى قونية ثم إلى الشام المرة بعد المرة، وبذلك أمضى حياته متنقّلًا بين المدينتين. توفّي القونوي في قونية ودُفن فيها وذلك عام 673 هـ. وأنشأ أصحاب صدر الدين زاوية عند قبره في قونية، وتوجد في هذه الزاوية مجموعة من مخطوطات الشيخ الأكبر ابن عربي، وهي المجموعة التي أهداها الشيخ إلى تلميذه صدر الدين. ومن مصنّفات القونوي "مفتاح الغيب"، "النفحات الإلهية"، "الفكوك"، "كشف سر الغيرة عن سرّ الحيرة"، "لطائف الأعلام في إشارات أهل الإلهام".

انظر: إبراهيم إبراهيم محمد ياسين، صدر الدين القونوي وفلسفته الصوفية، الإسكندرية: منشأة المعارف، 2003، ص ص 17 - 57؛ ص ص 61 – 95.

[1] الصَّفْوَة: "هم المُتصوّفون بالصّفاء عن كدر الغَيْرِيّة". علي بن محمد السيد الشريف الجرجاني، معجم التعريفات، تحقيق ودراسة: محمد صدّيق المنشاوي، القاهرة: دار الفضيلة، 2004.

والغَيْرِيّة: مِن الغَيْر. وبذلك الصّفوة هم من لا وُجْهَة لقلوبهم سوى الحقّ تعالى.  

[2] مَزِيَّة: جمع مزِيّات ومَزايا: فضيلة يمتاز بها الإنسانُ أو الشَّيءُ على غيره. والاجتباء: اجتبى الشيءَ: اصطفاه واختاره لنفسه.  

[3] حول "الوجود العلميّ" و"الإمكان العدميّ"، انظروا: "الوجود والعدم عند ابن العربي"، على  الرابط المختصر:

https://bit.ly/2LzXSi8

فالموجودات إنما هي بالأصل "أعيانٌ ثابتة" موجودة في "علم الله القديم"، أو في "الحضرة العِلْمِيّة"، والحضرة العلميّة هي من حضرة الغيب المطلق وهي إحدى الحضرات الخمس الإلهيّة، ويعرّف الجرجاني حضرة الغيب المطلق فيقول: "وعالمها عالم الأعيان الثابتة في الحضرة العلمية، وفي مقابلها حضرة الشهادة المطلقة: وعالهما عالم المُلك". الجرجاني، ص 78.

والعين الثابتة كما يعرفها الجرجاني "هي حقيقة في الحضرة العلميّة ليست بموجودة في الخارج بل معدومة ثابتة في علم الله تعالى"، المصدر السابق ص 134. ويقول الجرجاني: "الأعيان الثابتة هي حقائق المُمْكِنات في علم الحقّ تعالى، وهي صور حقائق الأسماء الإلهيّة في الحضرة العلميّة لا تأخّر لها عن الحقّ إلا بالذات لا بالزمان، فهي أزليّة وأبديّة، والمعنى بالإضافة: التأخّر بحسب الذات لا غير"، المصدر السابق، ص 28.

وتوضّح سعاد الحكيم مصطلع "العين الثابتة عند ابن عربي" فتقول: "عبارةُ عين ثابتة مركّبة من لفظين، يقصد ابن عربي بالعين: الحقيقة أو الذات أو الماهيّة. ويقصد بالثّبوت هنا: الوجود العقلي أو الذهني كوجود ماهيّة الإنسان أو ماهيّة المثلث في الذهن، في مقابل الوجود الذي يقصد به التحقق خارج الذهن في الزمان والمكان.. إذن، عندما يتكلم ابن عربي على "الأعيان الثابتة" إنما يقرر وجود عالم معقول توجد فيه حقائق الأشياء أو أعيانها المعقولة. إلى جانب العالم الخارجي المحسوس الذي توجد فيه أشخاص الموجودات". سعاد الحكيم، المعجم الصوفي: الحكمة في حدود الكلمة، ط 1، بيروت: دار دندرة للطباعة والنشر، 1981، ص 831.

العدم الإمكانيّ: لا يرد مصطلح العدم في مؤلفات الشيخ الأكبر وحيدًا أو مجردًا دائمًا بلا إضافات، بل لتفصيل رؤيته له كشفَ لنا عن مصطلحات جمعتها سعاد الحكيم في مؤلفها "المعجم الصوفي"؛ فهناك مصطلح "العدم الإمكاني" أو "عدم الممكن"، ومرادفات "العدم الإمكاني" في المعنى عند ابن العربي مصطلحات "العدم في القِدَم"، و"الثُّبوت" و"العدم الثبوتي"، فالمعدوم عند ابن العربي كما تحدده سعاد الحكيم هو "عين ثابتة معدومة: ثابتة في وجودها في علم الله القديم، معدومة أي مسلوب عنها الوجود الخارجي في زمان ومكان. إذن المعدوم له وجود عقليّ متميّز في علم الله. والعدم الإمكانيّ هو الثُّبوت"، المصدر السابق، ص 782. والثبوت هو حال الأعيان الثابتة قبل الإيجاد، أي وجودها في علم الله وعدمها بالنسبة للوجود الإضافي، والمُمْكِن والمُمْكِنات هي الأعيان الثابتة القابلة لكلمة الحضرة "كُنْ"، أي قبولها للإيجاد، يقول ابن العربي: "الموجودات.. لها أعيان ثابتة في حال اتصافها بالعدم الذي هو للممكن لا للمُحال.." ، محيي الدين ابن عربي، الفتوحات المكّيّة، ضبطه وصحّحه: أحمد شمس الدين، بيروت: دار الكتب العلمية، 1999، المجلد 4، ص 355. ويقول: "والممكنات في حال عدمها مهيّأة لقبول الوجود". المصدر السابق، المجلد 6، ص 228.

[4] العَرْصة: البقعة الواسعة بين الدور لا بناء فيها، وهي هنا استعارة.   

[5] وهو ظهور الأعيان الثابتة في عالم المحسوسات، ذلك أن الأعيان الثابتة، أو المُمْكِنات، لا تملك في حال ثبوتها القدرة على التكوّن والتكوين، ولهذا طلب الله منها التكوّن أي طلبه لها لا له لافتقارها إلى القدرة الذاتية على التكوّن، يقول الشيخ الأكبر: "واعلم أن كل طالب إنما يطلب ما ليس عنده، فإن الحاصل لا يُبتغى، والحق لا يطلب من الممكن إلا تكوينه، وتكوينه ليس عنده ]أي ليس عند المُمْكِن[، فإن المُمْكِن في حال عدمه ليس بمُكوِّن، فالتكوين ليس بكائن في العين الثابتة الذي هو الشي‏ء، فإذا أراده الحق قال له ﴿كُنْ فَيَكُون﴾ ]النحل: 40[، فأراد الحق حصول التكوين في ذلك الشي‏ء لأنه ليس الكون عند ذلك الشي‏ء، فما أراد الكون لنفسه وإنما أراده للشي‏ء الذي ليس عنده، فإنه تعالى موجود لنفسه فهو يريد الأشياء للأشياء لا لنفسه فإنها عنده، فإنه ما من شي‏ء إلا عنده خزائنه، ولا تكون خزائن إلا بما يُختزن فيها، فالأشياء عنده مختزنة في حال ثبوتها، فإذا أراد تكوينها لها أنزلها من تلك الخزائن وأمرها أن تكون فتكتسي حلّة الوجود فيظهر عينها لعينها..". المصدر السابق، المجلد 8، ص 13.    

[6] وهو القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ﴾، ]الأنعام: 98[. وقال تعالى: ﴿وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا﴾، ]نوح: 14[.

[7] السَّد: حاجز، فاصل بين شيئين، والمقصود هنا أن الوجود في القالب البشريّ الجسماني هو بحدّ ذاته سدٌّ = حجابٌ يمنع من رؤية الحقائق. والتَّشغيب: مصدر شَغَّب، شَغّبَ الناسَ أو عليهم أو فيهم أو بهم: أثار بينهم الشرّ والفتنة. والتَّشْغيب: تهييج الشرّ. والمقصود: أن الطبيعة البشرية بها من التخليط العنصريّ الطبيعيّ والمزج بين الأضداد ــ كالخير والشرّ ــ ما يجعلها أشبه بأرض مضطربة بالشّغب والفتنة والجَلَبة والخصام، قال تعالى ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾، [الشمس: 7 – 10]، وقال تعالى ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾، [الإنسان: 2 – 3]، وأمشاج: أَخْلاط.

[8]  السُّدفة: الظُّلمة.   

[9]  اللُّجِّيُّ : المنسوب إِلى اللُّجّة. قال تعالى: ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ﴾، [النور: 40]. والبحر اللجّي: عميق كثير الماء، متلاطم الأمواج. وسُدفة اللجيّ الطبيعيّ العنصريّ: أي ظُلمة التخليط والتركيب في الطبيعة البشرية.

[10] حقُّ اليقين: "استيلاء نور تجلّي الحقيقة على ظُلمة رَسْمِ العبد. وفي النهايات: الفناء في حقّ اليقين عن رسمه بالكليّة". عبد الرزاق الكاشاني، معجم اصطلاحات الصوفية، تحقيق وتقديم وتعليق: عبد العال شاهين، القاهرة: دار المنار، ط1، 1992، ص 275. وهو: "عبارة عن فناء العبد في الحقّ، والبقاء به علمًا وشهودًا وحالًا، لا علمًا فقط.. وقيل: علم اليقين ظاهر الشريعة، وعين اليقين الإخلاص فيها، وحقّ اليقين المشاهدة فيها". الجرجاني، ص 80.   

[11] قيل لأبي سعيد الخرار: بِمَ عرفتَ الله؟ قال: بجمعه بين الأضداد، ثم تلا قوله تعالى: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ﴾، [الحديد: 3].

[12] فما عبد عابدٌ غيره سبحانه كما يقول الشيخ الأكبر "كتاب الألف وهو كتاب الأحديّة": " ثم إن الأحدية قد أُطلقت على كل موجود من إنسان وغيره، لئلا يطمع فيها الإنسان، فقال تعالى: ﴿فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 110]، وقد أشرك المشركون معه الملائكة والنجوم والأناسي والشياطين والحيوانات والشجر والجمادات، فصارت الأحدية سارية في كل موجود، فزال طمع الإنسان من الاختصاص، وإنّما عمّت جميع المخلوقات الأحديّةُ، للسّرَيان الإلهي الذي لا يشعر به خَلْقٌ إلا من شاء الله، وهو قوله تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ﴾ [الإسراء: 23]، وقضاؤه لا سبيل أن يكون في وسع مخلوق أن يردّه، فهو ماضٍ نافذٌ، فما عَبَدَ عابدٌ غيره سبحانه، فإذن الشريك هو الأحد، وليس المعبود هو الشخص المنصوب، وإنما هو السرّ المطلوب، وهو سرّ الأحدية، وهو مطلوب لا يُلْحَق، وإنما يُعْبَد الربّ، والله تعالى الجامع، ولهذا أشار لأهل الإفهام بقوله تعالى: ﴿وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 110]، فإن الأحد لا يقبل الشركة وليست له العبادة وإنما هي للربّ، فتنبّه على تَوْفِيَةِ مقام الربوبية وإبقاء الأحدية على التنزيه.. والواحد لم يُثَنَّ بغيره أصلًا وإنما ظهر العدد والكثرة بتصرفه في مراتب معقولة غير موجودة، فكل ما في الوجود واحد، ولو لم يكن واحد لم يصحّ أن تثبت الوحدانية عنده لله سبحانه، فإنه ما أثبت لمُوجِدِه إلا ما هو عليه كما قيل: وفي كل شيء له آية، تدل على أنه واحـد. وهذه الآية التي في كل شيء التي تدل على وحدانية الله هي وحدانية الشيء لا أمر آخر، وما في الوجود شيء من جمالٍ وغيره وعالٍ وسافلٍ إلا عارفًا بوحدانية خالقه فهو واحد ولا بدّ، ولا تتخيل أن المشرك لا يقول بالواحد بل يقول به لكن من مكان بعيد، ولهذا شَقِيَ بالبعد، والمؤمن يقول به من مكان قريب ولهذا سَعِدَ بالقرب، وإلا فهذا المشرك قد أثبت وحدانية ذات المعبود وأثبت وحدانية الشريك ثم أعطى لوحدانية الشريك وحدانية حسّية وأعطى لوحدانية الحق وحدانية سرّه، كما توجّه الوجه للكعبة وتوجّه القلب إلى الحقّ، غير أنه لما كان الأمر مشروعًا كان قربة، وكما سجدت ذوات الملائكة لآدم وأسرارُهم لخالقها، فكلّ عبادة قامت عن أمر أثنى عليها، وكل عبادة لم تقم عن أمر ذُمَّتْ ولم يَثْنِ عليها، لكن قامت على المشيئة التي هي مستوى ذات الأحدية، ولهذا قال تعالى: ﴿مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابتغآء رِضْوَانِ الله فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا﴾ [الحديد: 27]، فأثبت أن لها حقًا ينبغي أن يُراعى ويُحفظ وذلك للغيرة الإلهية، فإنه لولا سرّ الألوهية التي تخيلوها في هذا المعبود ما عبدوه أصلًا، فقام لهم سرّ الألوهية مقام الأمر لنا، غير أن الحق قرن السعادة بأمر المشيئة وقرن الشقاء بإرادة المشيئة، فما ثَمَّ مُشَرِّع غير الله، فشرعٌ ينزل على الأسرار من خلف حجاب العقل، نزل به رسول الفكر عن إرادة المشيئة ويسميها الحكماء السياسة، ولهذا تخيلوا أن شرع الأنبياء هكذا يُنَزَّلُ عليهم وهكذا هو أصله وما عرفوا أمر المشيئة. وسبب هذا جهلهم بالمشيئة، فإذن المعبود بكل لسان وفي كل حال وزمان إنما هو الواحد، والعابد من كل عابد إنما هو الواحد فما ثمّ إلا الواحد..". محيي الدين ابن عربي، رسائل ابن عربي، وضع حواشيه: محمد عبد الكريم النمّري، بيروت، دار الكتب العلمية، ط2، 2010، ص 38 – 39.

[13] مِراء: مصدر مارى: شكٌّ، ارتياب.   

[14] قال تعالى: ﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾، [البقرة: 213].

[15] أدواء: جمع داء. والداء: المرض ظاهرًا أو باطنًا. والداء: العيب باطنًا أو ظاهرًا.

[16] [المجادلة: 22].

[17] مفتاح قفل الإنشاء: يقول الشيخ الأكبر في الصلاة الفيضيّة: "اللهمّ أَفِضْ صِلَةَ صَلَواتِك، وسَلامةَ تسليماتك، على أوَّلِ التَّعَيُّنات المُفاضَةِ من العَماء الرّبانيّ، وآخر التَّنَزُّلاتِ المُضافةِ إلى النّوع الإنسانيّ.. الفيضِ الأقدسِ الذاتيِّ الذي تَعَيَّنَتْ به الأعيانُ واستعدادتُها، والفيضِ المقدَّسِ الصِّفاتيَّ الذي تكوَّنتْ به الأكوانُ واستمدادتُها.."، فالحقيقة المحمدية هي: "أول ظاهر في الوجود، وإن كان وجودها عن الهباء وحقيقة الحقائق. فالأول، أي الهباء، حقيقة معقولة غير موجودة في الظاهر. والثانية، أي حقيقة الحقائق، لا تتصف بالوجود ولا بالعدم. إذن يتبقى أن الحقيقة المحمدية هي أول موجود ظهر في الكون ومن تجلّيه ظهرَ الكون". الحكيم، ص 349.

يقول الشيخ الأكبر: "فلما أراد (الحقّ) وجود العالم وبدأه على حدّ ما علمه بنفسه، انفعل عن تلك الإرادة المقدّسة بضرب تجلٍّ من تجليات التنزيه إلى الحقيقة الكلية، انفعل عنها حقيقة تسمّى الهباء.. ليفتح فيها ما شاء من الأشكال والصور وهذا أول موجود في العالم.. ثمّ إنه سبحانه تجلّى بنوره إلى ذلك الهباء، ويسمّونه أصحاب الأفكار الهَيولى الكلّ، والعالم كله فيه بالقوة والصلاحية، فقبل منه تعالى كل شيء في ذلك الهباء، على حسب قوته واستعداده، كمل تقبل زوايا البيت نور السراج، وعلى قدر قربه من ذلك النور يشتد ضوؤه وقبوله. فلم يكن أقرب إليه قبولًا في ذلك الهباء إلا حقيقة محمد صلى الله عليه وسلم المُسمّاة بالعقل، فكان سيّدَ العالم بأسره، وأوّلَ ظاهرٍ في الوجود، فكان وجوده من ذلك النور الإلهيّ ومن الهباء ومن الحقيقة الكلية، وفي الهباء وُجِدَ عينه وعين العالم من تجلّيه.."، ابن عربي، الفتوحات، المجلد 1، ص 184.

[18] باعتباره صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء وأكمل موجود في النوع الإنساني: يقول الشيخ الأكبر في "فصوص الحكم" في باب: "فص حكمة فردية في كلمة محمدية": "إنما كانت حكمته فردية لأنه أكمل موجود في هذا النوع الإنساني، ولهذا بُدئ به الأمر وخُتم: فكان نبيًا وآدم بين الماء والطين، ثم كان بنشأته العنصرية خاتم النبيين.. فكان عليه السلام أدلّ دليل على ربه، فإنه أُوتي جوامع الكَلِم..". محيي الدين ابن عربي، فُصوص الحِكَم، التعليقات عليه: أبو العلا عفيفي، بيروت: دار الكتاب العربي، الجزء الأول،  ص 214.   

[19] الكُمّل: جمع كامل. والمقصود هنا من حاز من الأولياء مرتبة "الإنسان الكامل"؛ يقول الشيخ الأكبر: ".. فإن الله لما أحبَّ أن يُعرَف، لم يمكن أن يعرفه إلا من هو على صورته، وما أوجد الله على صورته أحدًا إلا الإنسان الكامل لا الإنسان الحيوان، فإذا حصل حصلت المعرفة المطلوبة فأوجد ما أوجد من الأسباب لظهور عين الإنسان الكامل.. وعلمت أن العلم بالله ــ المُحدَث ــ الذي هو على صورة العلم بالله ــ القديم ــ لا يتمكّن أن يكون إلا لمن هو في خَلْقِه على الصورة، وليس غير الإنسان الكامل، ولهذا سُمِّي كاملًا، وأنه روح العالم، والعالم مُسَخَّرٌ له علوّه وسفله، وأن الإنسان الحيوان من جملة العالم المُسَخَّر له، وأنه يشبه الإنسان الكامل في الصورة الظاهرة، لا في الباطن من حيث الرتبة، كما يشبه القرد الإنسان في جميع أعضائه الظاهرة، فتأمّل درجة الإنسان الحيوان من درجة الإنسان الكامل، واعلم أنّك العين المقصودة، فما وُجدت الأسباب إلا بسببك، لتظهر أنت، فما كانت مطلوبة لانفسها". ويقول: "ولمّا لم يتمكّن أن يكون كل إنسان له مرتبة الكمال المطلوبة في الإنسانية ــ وإن كان يفضل بعضهم بعضًا ــ فأدناهم منزلة مَنْ هو إنسان حيواني، وأعلاهم من هو ظِلُّ الله، وهو الإنسان الكامل نائب الحقّ، يكون الحقّ لسانه وجميع قواه، وما بين هذين المقاميْن مراتب، ففي زمان الرسل يكون الكامل رسولًا، وفي زمان انقطاع الرسالة يكون الكامل وارِثًا، ولا ظهور للوارث مع وجود الرسول، إذ الوارث لا يكون وارثًا إلا بعد موت من يرثه، فلم يتمكّن للصاحب مع وجود الرسول أن تكون له هذه المرتبة، فالأمر ينزل من الله على الدوام لا ينقطع، فلا يقبله إلا الرسل خاصّة على الكمال، فإذا فُقِدوا حينئذ وُجِد ذلك الاستعداد في غير الرسل، فقبلوا ذلك التّنزّل الإلهيّ في قلوبهم، فَسُمّوا وَرَثة، ولم ينطلق عليهم اسم رسل مع كونهم يخبرون عن الله بالتّنزّل الإلهيّ..". ابن عربي، الفتوحات، المجلد 5، ص 399.   

[20] الأمَمُ: القُرب. وتعني: اليسير القريب التناول، والأمَم: البيّن من الأمور، وتعني أيضًا: الوسط.

[21] الذِّكْر: "الخلاص من النسيان بدوام حضور القلب مع الحقّ. وصورته في البدايات: الذكر الظاهر. وفي الأبواب: الذكر الخفيّ. وفي المعاملات: ذكر الفعّال لما يريد برؤية الأفعال كلها منه والأمور كلها بيده. وفي الأخلاق: ذكر الأخلاق الإلهية، والتشوّق إلى التخلّق بها..". الكاشاني، ص 277.  

[22] أي تخليص القلب من التعلقات الدنيوية، بحيث لا يكون له وجهة سوى الحقّ تعالى.   

[23] ظاهر الذكر: ذكر اللسان. باطن الذكر: ذكر القلب.  

[24] أي الذكر باللسان والقلب معًا.   

[25] مقام القُربة: في معرض إجابته على سؤال الحكيم الترمذيّ: "أين منازل أهل القربة؟" يقول الشيخ الأكبر ابن عربي: "بين الصدّيقية ونبوّة الشرائع، فلم تبلغ ]أي منازل أهل القربة[ منزلةَ نبيّ التشريع من النبوّة العامة، ولا هو من الصدّيقين الذين هم أتباع الرسول لقول الرسل. وهو مقام المقرّبين. وتقريب الحقّ لهم على وجهين: وجه اختصاص من غير تعمّل كالقائم في آخر الزمان وأمثاله.. ووجه آخر: من طريق التعمّل، كالخضر وأمثاله. والمقام واحد ولكن الحصول فيه على ما ذكرناه. ومن ثَمَّ يتبيّن الرسول من النبيّ ويعمّ الجميع هذا المقام، وهو مقام المقرّبين والأفراد، وفي هذا المقام يلتحق البشر بالملأ الأعلى، ويقع الاختصاص الإلهي فيما يكون من الحقّ لهؤلاء". أحمد عبد الرحيم السايح وتوفيق علي وهبة (إعداد وتحقيق)، أجوبة ابن عربي على أسئلة الحكيم الترمذيّ، القاهرة: مكتبة الثقافة الدينية، ط1، 2006،  ص 6-7. 

[26] المنصّة: "مجلى الأعراس وهي تجليات روحانية". والتجلّي: ما ينكشف للقلوب من أنوار الغيوب. ابن عربي، رسائل ابن عربي، ص 415؛ ص 412.   

[27] التدلّي: "نزول المقرّبين، ويُطلق بإزاء نزول الحقّ إليهم عند التّداني". والتداني: "معراج المقرّبين". المصدر السابق، ص 414.   

[28] العفْص: ثمرة البلوط، يُتَّخذ منها الحبر أو الصبغ. والزّاج: مادة كبريتيّة.   

[29]  الخلافة عند ابن عربي هي أولًا: الخليفة هو الله، حيث يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعائه ربه في سفره: "أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل" وثانيًا: الخلفاء هم أفراد النوع الإنساني: وهم إما خلفاء عن الله (الرسل والأنبياء)، أو يخلفون عن الرسل ويخلف بعضهم بعض (أولياء). والخلافة رتبة لا يستحقها إلا من خُلق على الصورتين، الإلهية والكونية، أي من جمع في ذاته جميع الحقائق، الحق والعالم. وهو الإنسان الكامل. الحكيم، ص 412 – 414. 

[30] الطَّرْز: الشكل والنمط.  

[31] الهَيُولى: "لفظ يوناني بمعنى الأصل والمادة، وفي الاصطلاح: هي جوهر في الجسم قابل لما يعرض لذلك الجسم من الاتصال والانفصال محلّ للصورتين الجسميّة والنوعيّة". الجرجاني، ص 216. والهَيُولي: "اسم الشيء بنسبته إلى ما يظهر فيه صورة، فكل باطن يظهر فيه صورة يسمونه هيولى". الكاشاني، ص 72. ويقول عبد الكريم الجيلي في المرتبة التاسعة عشرة من مراتب الوجود، وهي الهيولى: "من مراتب الوجود. وهي الهيولى، وهي حضرة التشكيل والتصوير تتولّد هذه الصور منها كما تتولّد الأمواج من البحر، فإذا اقتضت الهيولى صورة من صور الوجود كان حتمًا على الطبيعة إبرازها في العالم بالقدرة الإلهية؛ لأن الله تعالى جعل اقتضاء الهيولى سببًا لإيجاد تلك الصورة، كما جعل دعاء المضطر سببًا لإجابته تعالى، فقال تعالى ﴿أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ﴾ [النمل: 62]، فاقتضاء الصورة من الهيولى دعاء لسان الحال لوجود ما اضطرت إلى وجوده، وهي الصورة التي تعيّنت في الهيولى، وتقدير الحق على الطبيعة بإيجاد تلك الصورة هي الإجابة الإلهية، فالهيولى بالنسبة إلى الصورة والأشكال كالماء للأشجار، يتغيّر بحسب كل شجرة وثمرتها، قال الله تعالى ﴿يُسْقَىٰ بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ"﴾ [الرعد: 4]، فالماء أصل لجميع النباتات في ذواتها غير متميّزة بعض عن بعضها بالفضل والطعم والقدر والقدرة والثمر والحسن والقبح، إلى غير ذلك من الأمور التي تتميز بها الأشياء بالفضل، بزيادة الحل والقيمة والنفع والطهارة واللطف، فكما أن النباتات صور للماء، كذلك الصور كلها صور حقيقة الهيولى وتمامها بتمام الصور، وليس للصور آخِر فليس لها نهاية فهي تحت الطبيعة لأن اقتضاءها إنما هو بحكم الطبيعة، فافهم". عبد الكريم بن إبراهيم الجيلي، مراتب الوجود وحقيقة كل موجود، القاهرة: مكتبة القاهرة، ط1، 1999، ص 33-34.   

[32] اسْتجَنَّ: اسْتَتَرَ، والمُسْتَجِنُّ: المَسْتور.   

[33] [الأنفال: 42].   

[34] يقول القشيري: "والخواطر خطاب يرد على الضمائر، وهو قد يكون بإلقاء مَلَك، وقد يكون بإلقاء شيطان، ويكون أحاديثَ النفس، ويكون من قبل الحقّ سبحانه. فإذا كان من المَلَك فهو الإلهام. وإذا كان من قبل النّفْس، قيل له: الهواجس. وإذا كان من قبل الشيطان فهو الوسواس. وإذا كان من قبل الله سبحانه، وإلقائه في القلب، فهو: خاطرٌ حقّ". أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري، الرسالة القشيرية، وضع حواشيه: خليل منصور، بيروت: دار الكتب العلمية، 2001، ص 119. 

ويقول ابن عربي: "الخاطر: ما يرد على القلب والضمير من الخطاب ربّانيًا كان أو مَلَكيًا أو نفسيًا أو شيطانيًا، من غير إقامة، وقد يكون لكلّ وارد لا تَعَمُّل لك فيه". ابن عربي، رسائل ابن عربي، ص 410 – 411.

والمقصود هنا ـ في حديث القونوي ـ بالخواطر التي يجب دفعها نوعين منها: أحاديث النفس ووساوس الشيطان، حتى يصبح القلب مستعدًأ لإلقاء الخاطر المّلكي أو الربّاني.

[35] ]الأعراف: 205].  

[36] [الأحزاب: 21].   

[37] الدَّيْدَن: عادة ودَأْب.  

[38] نَتَا نُتُوًّا، نتا العضو: وَرِم. ونتا الصخرُ، أي خرج من موضعه، بَرَزَ. 

[39] [الأحزاب: 4].  

[40] [إبراهيم: 48].   

[41] [الزمر: 47].   

[42] [فاطر: 2].

[43] البقاء هو: "رؤية العبد قيام الله على كل شيء. والفناء: رؤية العبد للعلّة بقيام الله على ذلك". ابن عربي، رسائل ابن عربي، ص 410. 

تم عمل هذا الموقع بواسطة