كتاب الألف ـ وهو كتاب الأحدية
الشيخ الأكبر محي الدين بن العربي
بسم الله الرحمن الرحيم
به الحول والقوة
أحدية حمد الواحد في وحدانيته، وحدانية حمد الأحد في أحديته، فردية حمد الوتر في وتريته، وترية حمد الفرد في فرديته، الله أكبر استدرك الناظر النظر، وقف الخاطر بهذا حين خطر، لاح بالتضمين لا بالتصريح وجود البشر، وحدانية حمد الواحد في إثنينيته، فردية حمد الفرد في زوجيته، وترية حمد الوتر في شفعيته، وبقي حمد الأحد واحدًا في أحديته، صلى الواحد سبحانه بتسبيحه على الإنسان الواحد محمد الخارج بعد الضرب الموقوف على صناعة العدد وهكذا الفرد والوتر ما عدا الأحد، فإذن عادت الصلاة عليه لما لم يجد من يستند إليه وسلم من هذا المقام تسليمًا.
إخوتي الأمناء الأتقياء الأبرياء الأخفياء سلام الله عليكم ورحمة الله وبركاته، اسمعوا وعوا ولا تذيعوا فتقطعوا، هذا كتاب الألف وهو كتاب الأحدية، جاءكم به رسوله الواحد لأحديتكم بأحده، جاءكم بها رسولها الواحد لتثنيتكم يوحدها، ورسولها الفرد لزوجيتكم يفردها، ورسولها الوتر لشفعيتكم بوترها، فتأهبوا لقدوم رسلها، وتحققوا غايات سبلها، والله يمدكم بالتأييد، آمين. أما بعد، فإن الأحدية موطن الأحد، عليها حجاب العزة، لا يُرفع أبدًا، فلا يراه في الأحدية سواه، لأن الحقائق تأبى ذلك.
واعلموا أن الإنسان الذي هو أكمل النسخ وأتم النشآت مخلوق على الوحدانية لا على الأحدية، لأن الأحدية لها الغنى على الإطلاق، فالواحد لا يقوى ولا يصح هذا المعنى على الإنسان وهو واحد، فالوحدانية لا تقوى قوة الأحدية، فكذلك الواحد لا يناهض الأحدية، لأن الأحدية ذاتية للذات الهوية، والوحدانية اسم لها سَمَّتها بها التثنية، ولهذا جاء الأحد في نسب الرب، ولم يجئ الواحد، وجاءت معه أوصاف التنزيه، فقال اليهود لمحمد عليه السلام: انسب لنا ربك، فأنزل الله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 1]، فجاء بالنّسب ولم يقولوا صِف ولا انعت.
ثم إن الأحدية قد أُطلقت على كل موجود من إنسان وغيره، لئلا يطمع فيها الإنسان، فقال تعالى: ﴿فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 110]، وقد أشرك المشركون معه الملائكة والنجوم والأناسي والشياطين والحيوانات والشجر والجمادات، فصارت الأحدية سارية في كل موجود، فزال طمع الإنسان من الاختصاص، وإنما عمّت جميع المخلوقات الأحديةُ، للسريان الإلهي الذي لا يشعر به خلق إلا من شاء الله، وهو قوله تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ﴾ [الإسراء: 23]، وقضاؤه لا سبيل أن يكون في وسع مخلوق أن يردّه، فهو ماضٍ نافذٌ فما عبد عابدٌ غيره سبحانه، فإذن الشريك هو الأحد، وليس المعبود هو الشخص المنصوب، وإنما هو السرّ المطلوب، وهو سرّ الأحدية، وهو مطلوب لا يُلْحَق، وإنما يُعْبَد الربّ، والله تعالى الجامع، ولهذا أشار لأهل الإفهام بقوله تعالى: ﴿وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 110]، فإن الأحد لا يقبل الشركة وليست له العبادة وإنما هي للربّ، فتنبّه على تَوْفِيَةِ مقام الربوبية وإبقاء الأحدية على التنزيه الذي أشرنا إليه، فالأحد عزيز منيع الحمى، لم يزل في العمى، لا يصحّ به تجلٍّ أبدًا فإن حقيقته تَمْنَعُ، وهو الوجه الذي له السُّبُحَات المُحْرِقة فكيف هو، فلا تطمعوا يا إخواننا في رفع هذا الحجاب أصلًا فإنكم تجهلون وتتعبون، ولكن قَوُّوا الطمع في نيل الوحدانية، فإن فيها نشأتم فإنها المتوجهة على من سواكم، وقد ظهرت في جنة عدن وغيرها ثم ثُنِّيَت لكم وأضافها إلى الأنا سبحانه.
وقد ذكرنا الأنا والإضافة وما أشبه هذه الضمائر في كتاب الياء المعروف بكتاب الهُوَ فينظر هناك، والواحد لم يُثَنَّ بغيره أصلًا وإنما ظهر العدد والكثرة بتصرفه في مراتب معقولة غير موجودة، فكل ما في الوجود واحد، ولو لم يكن واحد لم يصح أن تثبت الوحدانية عنده لله سبحانه، فإنه ما أثبت لمُوجِدِه إلا ما هو عليه كما قيل:
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحـد
وهذه الآية التي في كل شيء التي تدل على وحدانية الله هي وحدانية الشيء لا أمر آخر، وما في الوجود شيء من جمالٍ وغيره وعالٍ وسافلٍ إلا عارفًا بوحدانية خالقه فهو واحد ولا بد، ولا تتخيل أن المشرك لا يقول بالواحد بل يقول به لكن من مكان بعيد، ولهذا شقي بالبعد، والمؤمن يقول به من مكان قريب ولهذا سعد بالقرب، وإلا فهذا المشرك قد أثبت وحدانية ذات المعبود وأثبت وحدانية الشريك ثم أعطى لوحدانية الشريك وحدانية حسّية وأعطى لوحدانية الحق وحدانية سرّه، كما توجه الوجه للكعبة وتوجه القلب إلى الحق، غير أنه لما كان الأمر مشروعًا كان قربة، وكما سجدت ذوات الملائكة لآدم وأسرارهم لخالقها، فكل عبادة قامت عن أمر أثنى عليها، وكل عبادة لم تقم عن أمر ذُمَّتْ ولم يَثْنِ عليها، لكن قامت على المشيئة التي هي مستوى ذات الأحدية، ولهذا قال تعالى: ﴿مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابتغآء رِضْوَانِ الله فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا﴾ [الحديد: 27]، فأثبت أن لها حقًا ينبغي أن يُراعى ويُحفظ وذلك للغيرة الإلهية، فإنه لولا سرّ الألوهية التي تخيلوها في هذا المعبود ما عبدوه أصلًا، فقام لهم سرّ الألوهية مقام الأمر لنا، غير أن الحق قرن السعادة بأمر المشيئة وقرن الشقاء بإرادة المشيئة، فما ثَمَّ مُشَرِّع غير الله، فشرعٌ ينزل على الأسرار من خلف حجاب العقل، نزل به رسول الفكر عن إرادة المشيئة ويسميها الحكماء السياسة، ولهذا تخيلوا أن شرع الأنبياء هكذا يُنَزَّلُ عليهم وهكذا هو أصله وما عرفوا أمر المشيئة.
وسبب هذا جهلهم بالمشيئة، فإذن المعبود بكل لسان وفي كل حال وزمان إنما هو الواحد، والعابد من كل عابد إنما هو الواحد فما ثم إلا الواحد، والإثنان إنما هو واحد وكذلك الثلاثة والأربعة والعشرة والمائة والألف إلى ما لا يتناهى ما تجد سوى الواحد ليس أمرًا زائدًا، فإن الواحد ظهر في مرتبتين معقولتين فسُمِّيَ اثنين هكذا ـ 11 ـ مثلًا ثم ظهر في ثلاث مراتب هكذا ـ 111 ـ مثلًا فسُمِّيَ ثلاثة، ثم زدنا واحدًا فكان أربعة، وواحد على الأربعة فكان خمسة، كذلك أيضًا كما أنشأه يفنيه بزواله عن تلك، فتكون الخمسة موجودة فإذا عدم الواحد من الخمسة عدمت الخمسة، وإذا ظهر الواحد ظهرت وهكذا في كل شيء.
فهذه وحدانية الحق، فبوجوده ظهرنا ولو لم نكن، ولا يلزم من كوننا لم نكن أنه سبحانه لا يكون، كما لا يلزم من عدم الخمسة عدم الواحد، فإن الأعداد تكون عن الواحد لا يكون الواحد ـ 1 ـ عنها فلهذا تظهر به ولا يُعدَم بعدمها، وهكذا أيضًا فيما تناله من المراتب إن لم يكن هو في المرتبة المعقولة لم تظهر معًا، فتفطن لهذا الواحد والتوحيد واحذر من الاتحاد في هذا الموضع، فإن الاتحاد لا يصحّ، فإن الذاتين لا تكون واحدة، وإنما هما واحدان، فهو الواحد في مرتبتين.
ولهذا إذا ضربت الواحد في الواحد لم يتضعّف ولم يتولّد منهما كثرة لأن هما ما هو، فإنك ضربت الشي في نفسه فلم يظهر لك سوى نفسه، فاضرب أنا في أنا يخرج لك في الخارج أنا، واضرب هو يخرج لك في الخارج هو، وهكذا كل مضروب في نفسه حتى الجمل، إذا ضربت الجملة في الجملة يخرج لك من الاعداد إحدى الجملتين كاملة في مرتبة كل واحد من آحاد تلك الجملة المضروب فيها، وذلك لأن الجملة واحدة في الجمل، والجمل والجملة آحاد والآحاد تكرار الواحد في المراتب، فالوحدانية سارية ما ثَمَّ غيرها، والتثنية مثل الحال لا موجودة فإن الحقيقة تفنيها أو تأباها ولا معدومة فإن الحق يثبتها.
ومثال ما ذكرنا من الجمل أن تقول أربعة في أربعة فيكون المجتمِع من ذلك ستة عشر، فكأني قلت إذا مشت الأربعة بجملتها في آحاد هذه الأربعة، أو في آحاد نفسها وهو الصحيح، بالضرورة تكون ستة عشر، لأن الأربعة حقيقة واحدة والستة عشر واحدة فما صدر عن الواحد إلا واحد، هو معنى قولنا وهو الصحيح ـ 1 ـ وكذلك إذا قلنا سبعة في ثمانية، وهذا من الضرب المختلف، فيكون المجتمع المتولد منهما ستة وخمسين، فكأني قلت إذا مشت السبعة في آحاد الثمانية أو الثمانية في آحاد السبعة كم من مرتبة تظهر من الآحاد، فلا بد أن تقول ستة وخمسين واحدًا، فكأنه قال الواحد مشى ستة وخمسين منزلًا، فهكذا فليُعْرَف الواحد. إلا أن معنى الواحد لا يشركه اسم سوى اسم الوتر، فإنه شاركه في المبدأ، ولهذا يجوز الوتر بركعة وبثلاثة، فيشرك الفرد أيضًا، فإن الفرد لا يظهر إلا من الثلاثة فصاعدًا في كل عدد لا يصح أن ينقسم، كالخمسة والسبعة والتسعة والأحد عشر وما أشبه ذلك، فكأن الوتر طالب ثأر من الواحد لأنه أخفى رسمه وعزله من أكثر المواضع وما أبقى له إلا القليل مثل الوتر في مراتب الصلاة وفي أسماء الحق، والواحد مسترسل منسحب على كل المراتب والمنازل فقد جاء في اللغة الوتر الذحل وهو طلب الثأر، فإنما يشارك الوتر للواحد في المبدأ لكونه عزله من أكثر المراتب وبالعكس.
وإنما عزل الواحد الوتر من المراتب لكونه شاركه في المبدأ وابقاء الفرد يتميز في المراتب مثل الواحد لأنه لم يشاركه في المبدأ لكن قد أبأحه له لأنه فيه بتوليته فلا يبالي لأنه تحت حكمه والوتر ما ولاه الواحد فلهذا ينبغي فيما ذكرناه.
فأول الأفراد الثلاثة ولهذا فردانية اللطيفة الإنسانية تخالف وحدانيتها، فإن فرداينتها ثبتت له بتقدم الإثنين وهو تسوية البدن وتوجه الروح الكلي، فظهرت النفس الجزئية التي هي اللطيفة الإنسانية فكانت فردًا، فإن بعل هذا الجسد المسوى إنما هو الكلي فبقي هذا الجزئي المولد بينهما فردًا، فطلب أهلًا يألف إليه ويسكن كسكون أبيه الذي هو الروح الكلي إلى أمه الذي هو الجسد المسوى فقال: ﴿رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ﴾ [الأنبياء: 89]، لعلمه بأن الأمر بعده يعود إلى ربه وهنا يصح استخلاف العبد ربه في مقابلة استخلاف الرب إياه في قوله: ﴿وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾ [الحديد: 7]، وقد ظهر هذا من النبي عليه السلام عالم العلماء في دعائه في السفر: "اللهم أنت الخليفة في الأهل"، فاستخلفه في أهله فكأن الحق في حكم العبد وجار بأمره لا إله إلا هو العزيز الحكيم، وكذلك في الميراث قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ﴾ [الأعراف: 128]، وقال له العبد الفرد: ﴿وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ﴾ [الأنبياء: 89]، فقال سبحانه: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَرِث الْأَرْض وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ﴾ [مريم: 40]. فأين العقول ما لها لا تنظر أين هذا النزول من جري الحق عن أمر العبد من قوله: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ [الزمر: 67]، ومن وصفه بالعزة. قلت وظهرت الفردية في الأجسام الإنسانية في موضعين: في آدم عليه الصلاة والسلام: ﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي﴾ [الحجر: 29]، وفي عيسى عليه الصلاة والسلام قوله: ﴿وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا﴾ [التحريم: 12]، فصار عيسى عليه الصلاة والسلام لمريم كروح آدم لآدم عليهم الصلاة والسلام، وإنما خرج جسمًا لظهوره في عالم الأجسام فهو أقرب إلى الجسدية منه إلى الجسمانية، فشأنه كشأن الأرواح الملكية والنارية إذا تراءت للأبصار تجسدت فوقعت الأبصار على الأجسام وهو في نفسه على روحية الجسدية ما يرى في الخيال في صورة الجسدية فقال تعالى: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ﴾ [آل عمران: 59]، فهذا الاشتراك في الفردية، غير أن جسد عيسى عليه الصلاة والسلام أخلص، ولهذا سماه روحًا، وسمى ذلك آدم من الأدمة فإنه مأخوذ من أديم الأرض، وأين الأدمة من الصفاء النوراني، ولهذا قال الله تعالى: ﴿خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ﴾ [آل عمران: 59]، ولم يقل خلقهما، والضمير يعود على أقرب مذكور ومن معرفتنا بالقصة فإن آدم عليه الصلاة والسلام خُمِّرَتْ طينته، خَمَّرَتْها اليدُ المقدسة، وكذلك خَمَّر عيسى عليه الصلاة والسلام طينة الطائر الذي خلقه بإذن الله تعالى ينبىء لما وقع التشبيه بينه وبين آدم أن الأمر ليس كما تظنون وأن القوة الروحية لي، وأني جسد وآدم جسد، وأني من اليد اليمنى، وأن آدم من حيث هو آدم من كلتي يديه يمين وهو من حيث أنا من اليد المطلقة، ولهذا قال تعالى: ﴿مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ [ص: 75]، فجمع له بين يديه، فكل سبب اليوم فهو نائب اليوم عن تلك اليد المقدسة، فلو عرفت الأسباب من نابت عنه لعرفت قدر ما هي عليه لكنها عميت عن ذلك فقالت: أنا لا غير وسنكشف عنها غطائها فيكون بصرها حديدًا، وكذلك أنا من حيث أنا يقول عيسى من اليد المُطلقة ومن حيث مريم من اليد المعروفة وبكلتي يدي ربي يمين، فجسدي ابن بنت أبي وأنا روح أبي وأمي وبنيه فلما جمعت بين اليدين وتميز ثاني الفردية لهذا كان مثل عيسى عند الله كمثل آدم، فهذا من بعض أسرار الفردية.
فأما حواء عليها الصلاة والسلام فمن الوحدانية لأن الفرد لم يعلم حتى استيقظ، وخلقت كاملة على صورتها من حي نائم كما خلق آدم عليه الصلاة والسلام على صورته من غير مزيد تعقل نفسه فيها، وكانت الشهوة النكاحية في الموضع الذي عمرته حواء حين خرجت، فإنه ليس في الوجود خلاء، فأثبتت الشهوة الموضع لنزول حواء فيه، ونزلت بالموضع الذي خرجت الشهوة فيه أقوى مما جرت في حواء فإن حواء حكم عليها موضع الشهوة، فالنساء أغلب على شهواتهن من الرجال، فإن الشهوة في الرجل بذاتها وفي المرأة بما بقي من آثار رحمتها في مواطنها الذي عمرته، وكانت الشهوة كالثوب على حواء من أجل صورة الموضع وانفشت الشهوة في آدم فعمّتهما جميعًا لكن بهذا الحكم ولهذا تعم شهوة الجماع عند الإنزال جميع البدن، ولهذا أمر بتطهير جميع البدن فإنه فَنِيَ بكُلّيته في تلك اللحظة فأمر بتطهير كُلّيته من ذلك لأجل مناجاة الحق تعالى، قال تعالى: ﴿يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ﴾ [الطارق: 7]، فآدم فرد وحواء واحد وواحد في الفرد مبطون فيه فقوة المرأة من أجل الوحدانية أقوى من قوة الفردانية ولهذا تكون المرأة أقوى في ستر المحبة من الرجل، ولهذا أقوى إلى الإجابة وأصفى محل، كل ذلك من أجل الوحدانية.
ولما كان الفرد لا يكون إلا بعد ثبوت الإثنين ضعف عن عزَّةِ الوحدانية فقال: ﴿رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا﴾ [الأنبياء: 89]، فلا تقل إنه طلب الرجوع إلى الوحدانية فإن لا يصح لأمرين: الأمر الواحد أنه فرد لا واحد، والثاني أن الله استجاب دعاءه فقال: ﴿فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَىٰ﴾ [الأنبياء: 90]، ولما وهب له زوجه فظهر فرد آخر وهو يحيى، ثم أشار بوحدانية المرأة وفردانية الرجل وقوة المرأة وضعف الرجل بصورة الميراث فأعطى الأكثر للأضعف كي يقوى من جهة الضعف ومن جهة النشء فإن الوحداني لا يقبل إلا مثله فأُعطي قسمًا واحدًا، والفرد إنما هو عين اثنين فهو ناظر لما هو عنه فأخذ قسمين، فمن الوجهين معًا للمرأة الثلث وللرجل الثلثين إذا لم يكن سواهما فافهم، فإن الحكم أبدًا إنما هو للموطن، ولهذا قلنا إن عيسى عليه الصلاة والسلام لولا الموطن ما ظهر له جسم البتة، فحكم عليه موطن هذه الدار الحسية موطن مريم عليها السلام.
ولما بانت اثنينية الواحد وزوجية الفرد طالبنا الوتر بشفعيته أن نبنيها للإخوان فإن فيها عزة الواحد، فإن الشفعية تُبقي لك حظًا في المُلك، ولما كان للوتر حظ كثير في المبدأ، لكن ليس هو كالواحد، فإن الواحد هو أصله، ولهذا قرن معه الشفع دون غيره فقال عز من قائل: ﴿وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ﴾ [الفجر: 3]، فأقسم بهما ولم يكن له ذلك السريان فجاءت الفهوانية بالوحدانية من جهة غيبها لا من جهة عينها من أجل الوتر أن يقوم بالشفعية فتعارض الوحدانية في السريان وليس له ذلك فقال: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ﴾ [الفجر: 4]، فهو تنبيه على سير الواحد في المراتب لإظهار الأعداد، وكنى عنه بالليل لطموس عين الوحدانية في الأعداد من جهة الظاهر إلا في كل مبدأ فإنها تظهر بذاتها فإنك لا تقول بعد الواحد واحد أبدًا وإنما تقول اثنان، ثلاثة، أربعة، خمسة، ستة، سبعة، ثمانية، تسعة، عشرة، مائة ألف وما ثم أكثر، فإن الحكم إنما هو للاثنا عشر الذي قد ربط الله الوجود بها، وهي البروج الاثني عشر المشهورة، الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت، فالواحد للحوت، والاثنا عشر للحمل ويتمشى بالأعداد على الترتيب، والحوت مائي، قال الله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ [الأنبياء: 30]، وما في الوجود إلا حي لأن كل ما في الوجود يسبح الله بحمده، والتسبيح لا يكون إلا من حي، فسرّ الحياة سارٍ في جميع الموجودات،كذلك الواحد سارٍ في جميع الأشياء كما ذكرنا فصار لا يظهر في الأعداد إلا هذه الاثنا عشر لفظة، فنقول واحد وعشرون، اثنان وثلاثون، ثلاثة وأربعون، أربعة آلاف، خمسة عشر ألفًا، مائة ألف. فكذلك حكم هذه الاثني عشر برجًا في جميع المولدات والأفلاك الروحانية، فتأمل قوة سلطان الوحدانية ما أعزها وأعظمها، وإنما لم يظهر الواحد باسمه في الأشياء وظهر بمعناه لأنه لولا معناه لم يوجد لهؤلاء عين ولو ظهر باسمه لم يوجد لهم عين، والغرض إنما هو في ظهور هذه الموجودات فلا بد أن يكون فيها بمعناه ولا يكون فيها باسمه، ومهما ظهر اسمه بطل الوجود، ومهما زال معناه بطل الوجود، وانظر يا سيدي بعقلك هل تصح نتيجة قط عن واحد لا تصح أبدًا، وإنما تكون النتيجة بظهور معنى الوحدانية في مرتبتين، وبازدواج الواحدين تكون النتيجة ويظهر الوجود، ولكن أكثر الناس ممن لا يعرف يتخيل أن النتيجة إنما هي عن اثنين وهو باطل وإنما هو عن ثلاثة وهو الاثنان والفرد، فإن الواحد مهما لم يصحب الاثنين لم يكن بينهما قوة النتاج أصلًا، فانظر إلى الأنثى والذكر ما أنتجا إلا بالحركة المخصوصة على الوجه المخصوص ولو لا ذلك لم يكن النتاج، وقد كان الاثنان موجودين ولم تكن ثَمَّ حركة مخصوصة على وجه مخصوص فلم يكن ثَمَّ نتاج فثبت أن الحركة أمر ثالث وهو الواحد الفرد حتى لا يظهر شيء إلا بوجود التوحيد: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ [الأنبياء: 22]، ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ [البقرة: 163]، وكذلك في المقدمات العلمية لتصور المعلومات بالبراهين، ما يتصور قط برهان إلا من مقدمتين، وكل مقدمة من مفردين يكون أحد المفردين خبرًا عن الآخر وهذا أيضًا لا ينتج، فإنه كقولنا السلطان جائر وخالد إنسان، فهذه أربعة ولا واحد فيها فلا نتاج، لكن هذه الأربعة إن لم تكن ثلاثة من كل وجه من أجل الوحدانية فإنها لا تنتج، إلا أن يكون واحد من هذه الأربعة يتكرر في المقدمتين، فيكون إذ ذاك ثلاثة فتصح النتيجة، فلا بد للإنتاج من وجه خاص به أن يكون الحكم أعم من العلة مساوٍ لها، ولا بد أن يكون على شرط مخصوص وهو أن يتكرر واحد من الأربعة في المقدمتين إن أردت نتيجة الإفادة، وإلا فقد يكون الإنتاج بغير فائدة فتكون ثلاثة ليست أربعة.
والغرض من وجود هذا النتاج لا غير لا ظهور الصدق في ذلك ولا الكذب، والصدق والكذب إنما يقع في الأصول التي هي المقدمات فتخبر عن إحدى المقدمتين أو عنهما بما ليس لها أو بما لها وتنسب كاذبة أو صادقة، وغرضنا من هذا أن النتاج الذي هو ظهور أعيان الموجودات لا يصح إلا بالواحد الفرد لا بالواحد غير الفرد.
ألا ترى الحق سبحانه هل أوجد العالم من كونه ذاتًا فقط، أو من كونه واحدًا، وإنما أوجده من كونه ذاتًا قادرة فهذان أمران: ذات وكونها قادرة، معقول آخر يعقل منه ما لا يعقل من كونه ذاتًا، وكذلك التخصيص من كونه ذاتًا أو من كونه مريدًا أو عالمًا مثل قولنا في كونه قادرًا، ثم عندنا ذاتًا وكونها قادرة من غير أن تكون متوجهة للإيجاد هل يظهر شيء، فكونها متوجهة غير كونها قادرة، وهذا حكم ثالث وهو حكم الفرد الواحد فإنا قد أثبتناه أزلًا ذاتًا قادرة ولا وجود لكون الحكم الثالث الذي هو التوجه لم نثبته فلم يكن الوجود والفعل يستحيل أزلًا والقادر لا يستحيل أزلًا فتأمل.
وأما ما ذكرناه هناك من نتائج المقدمات فأخاف أن لا تعقل ما ذكرناه حتى أضرب لك منه مثلًا فيما ذكرناه شرعيًا ليكون أقرب لفهمك لمعرفتك بالدين، فأقول إذا أردت أن تظهر في الوجود أن النبيذ حرام فتقول كل نبيذ مسكر، فهذان اثنان مسكر وحرام، ثم نقول والنبيذ مسكر فهذان اثنان نبيذ ومسكر، فبالضرورة ينتج أن النبيذ حرام بلا خلاف، أعني في النتيجة، لكن هل الحكم صحيح أم لا، أمر آخر يحتاج إلى معرفة أخرى ليس هذا الكتاب محلًا لها، وإنما نريد الإنتاج الذي هو ظهور الوجود خاصة بوجود الفرد الواحد فانظر إلى هاتين المقدمتين تجدها مركبة من ثلاثة في أربع مراتب وهو قولك مسكر وحرام ونبيذ ما ثم رابع، لكن تكرر قولك مسكر وهو الواحد المطلوب الذي به يقع النتاج فوجهه المخصوص تكراره.
وأما حكم الشرط المخصوص في هذا الازدواج أن الحكم أعم من العلة في هذه المسألة، وهو أن العلة الإسكار، وأن الحكم هو التحريم، والتحريم أعم من الإسكار، فإن المحرمات كثيرة منها المسكرات وغير المسكرات، فقد بان لك أن الأمر والشأن في الواحد، وهو كان المطلوب.
ثم اعلموا أنه لما كان الألف يسري في مخارج الحروف كلها سريان الواحد في مراتب الأعداد كلها لهذا سميناه كتاب الألف وهو قيّوم الحروف له التنزيه بالقبلية وله الاتصال بالبَعْدِيّة، فكل شيء يتعلق به ولا يتعلق هو بشيء فأشبه الواحد، لأن وجود أعيان الأعداد يتعلق به ولا يتعلق الواحد بها، فيظهرها ولا تظهره، وتشبهه في هذا الحكم الدال والذال والراء والزاي والواو، ويشبه في حكم السريان الواو المضموم ما قبلها والياء المكسور ما قبلها.
وقد ذكرنا هذا كله في كتاب الحروف لنا مستوفى فلينظر هناك، وكما أن الواحد لا يتقيد بمرتبة دون غيرها، ويخفي عينه أعني اسمه في جميع المراتب كلها كما قدمنا ذكره، كذلك الألف لا يتقيد بمرتبة ويخفي اسمه في جميع المراتب، فيكون الاسم هناك للباء والجيم والحاء وجميع الحروف، والمعنى للألف ـ مثل الواحد، فلهذا سميناه كتاب الألف وقد نجز الغرض من هذا الكتاب على قدر ما اقتضاه محل المُخاطب به حين سأل، والله أعلم والحمد لله رب العالمين. تمّ كتاب الأحدية وهو كتاب الألف ويتلوه إن شاء الله كتاب الجلالة والحمد لله ربّ العالمين.