1 قراءة دقيقة
إذا رأيتَ عالماً لم يستعمله علمه، فاستعمل أنت علمك في أدبك معه

بسم الله الرحمن الرحيم

(إذا رأيتَ عالماً لم يستعمله علمه، فاستعمل أنت علمك في أدبك معه)

وصية

الشيخ الأكبر ابن العربي


إذا رأيتَ عالماً لم يستعمله علمه، فاستعمل أنت علمك في أدبك معه، حتى توفّي العالم حقه من حيث ما هو عالم، ولا تُحجَب عن ذلك بحاله السيئ، فإن له عند الله درجة عِلْمِه، فإن الإنسان يُحشر يوم القيامة مع من أحبّ، ومن تأدّب مع صفة إلهية، كُسِيَها يوم القيامة، وحُشِر فيها.

وعليك بالقيام بكل ما تعلم أن الله يحبه منك فتبادر إليه، فإنك إذا تحلّيت به على طريق التحبّب إليه تعالى أحبّك، وإذا أحبّك أسعدك بالعلم به، وبتجلّيه، وبدار كرامته، فينعِّمك في بلائك. والذي يحبه تعالى أمور كثيرة اذكر منها ما تيسّر على جهة الوصية والنصيحة. فمن ذلك التجمّل لله، فإنه عبادة مستقلة، ولا سيّما في عبادة الصلاة، فإنك مأمور به، قال الله تعالى "يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ"، وقال في معرض الإنكار "قُلْ من حَرَّمَ زِينَةَ الله الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ والطَّيِّباتِ من الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا في الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ"، وأكثر من هذا البيان في مثل هذا في القرآن فلا يكون. ولا فرق بين زينة الله وزينة الحياة الدنيا إلا بالقصد والنيّة، وإنما عيْن الزينة هي هي، ما هي أمر آخر. فالنية روحُ الأمور وإنما لامرئ ما نوى.

فالهجرة من حيث ما كانت هجرة واحدةُ العين "فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه. وكذلك ورد في الصحيح في بيعة الإمام في الثلاثة الذين لا يُكَلِّمُهُمُ الله يَوْمَ الْقِيامَةِ ولا يُزَكِّيهِمْ ولَهُمْ عَذابٌ أَلِيم، وفيه "ورجلٌ بايع أماماً لا يبايعه إلا لدنيا، فإن أعطاه منها وفّى، وإن لم يعطه منها لم يَفِ" فالأعمال بالنيات، وهو أحد أركان بيت الإسلام.

وورد في الصحيح في مسلم أن رجلاً قال لرسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم "يا رسول الله، إني أحب أن يكون نعلي حسناً وثوبي حسناً، فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم: إن الله جميلٌ يحبّ الجمال"،‏ وقال "إن الله أَوْلى مَنْ تُجَمِّل له".‏

و من هذا الباب: كون الله تعالى لم يبعث إليه جبريل في أكثر نزوله عليه إلا في صورة دحية، وكان أجمل أهل زمانه، وبلغ من أثر جماله في الخلق أنه لما قدم المدينة، واستقبله الناس، ما رأته امرأة حامل إلا ألقت ما في بطنها. فكأن الحق يقول يبشّر نبيه صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم بإنزال جبريل عليه في صورة دحية "يا محمّد، ما بيني وبينك إلا صورة الجمال" يخبره تعالى بما له في نفسه سبحانه بالحال. فمن فاته التجمّل لله كما قلناه، فقد فاته من الله هذا الحب الخاص المعيّن، وإذا فاته هذا الحب الخاص المعيّن، فاته من الله ما ينتجه من علمٍ، وتجلٍّ، وكرامةٍ في دار السعادة، ومنزلةٍ في كثيب الرؤية، وشهودٍ معنويٍّ علميٍّ روحيٍّ في هذه الدار الدنيا في سلوكه ومَشاهدِه. ولكن كما قلنا ينوي بذلك التجمّل لله، لا للزينة والفخر بعرض الدنيا، والزهو والعجب والبطر على غيره.

ومن ذلك: الرجوع إلى الله عند الفتنة، فـ "إن الله يحبّ كل مُفْتَنٍ توّاب" كذا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم،‏ قال الله عزّ وجلّ "خَلَقَ الْمَوْتَ والْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا" والبلاء والفتنة بمعنى واحد، وليس إلا الاختبار لما هو الإنسان عليه من الدعوى‏، "إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ" أي اختبارك، "تُضِلُّ بِها من تَشاءُ" أي تحيّره، "وتَهْدِي بها من تَشاءُ" أي تبيّن له طريق نجاته فيها.

وأعظم الفتن: النساء والمال والولد والجاه‏، هذه الأربعة إذا ابتلى الله بها عبداً من عباده، أو بواحد منها، وقام فيها مقام الحقّ في نَصْبِها له، ورجع إلى الله فيها، ولم يقف معها من حيث عَيْنِها، وأخذها نعمة إلهيّة أنعم الله عليه بها، فردّته إليه تعالى، وأقامته في مقام حق الشكر الذي‏ أمر الله نبيّه عليه السلام موسى به فقال له "يا موسى، اشكرني حق الشكر. قال موسى: يا ربّ، وما حقّ الشكر؟ قال له: يا موسى إذا رأيت النعمة منّي فذلك حقّ الشكر" ذكره ابن ماجة في سننه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.‏

ولمّا غفر الله لنبيه محمد صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، وبشّره ذلك بقوله تعالى "لِيَغْفِرَ لَكَ الله ما تَقَدَّمَ من ذَنْبِكَ وما تَأَخَّرَ" قام حتى تورمت قدماه شكراً لله تعالى على ذلك، فما فتر ولا جنح إلى الراحة، ولمّا قيل له في ذلك وسُئل في الرفق بنفسه، قال صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم "أفلا أكون عبداً شكوراً" وذلك لمّا سمع الله يقول " بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ"، فإن لم يقم في مقام شكر المنعِم، فاته من الله هذا الحب الخاص بهذا المقام الذي لا يناله من الله إلا الشكور، فإن الله يقول "وقَلِيلٌ من عِبادِيَ الشَّكُورُ"، وإذا فاته، فاته ما له من العلم بالله، والتجلّي والنعيم الخاص به في دار الكرامة، وكثيب الرؤية يوم الزّوْر الأعظم، فإنه لكل حبّ إلهيّ من صفة خاصة علمٌ وتجلٍّ ونعيمٌ ومنزلةٌ، لا بد من ذلك، يمتاز بها صاحب تلك الصفة من غيره‏.

فأمّا فتنة النساء، فصورة رجوعه إلى الله في محبّتهنّ بأن يرى أن الكلّ أحبّ بعضَه وحنّ إليه، فما أحبّ سوى نفسه، لأن المرأة في الأصل خُلقت من الرجل، من ضلعه القصيرى، فينزلها من نفسه منزلةَ الصورة التي خلق الله الإنسانَ الكامل عليها، وهي صورة الحقّ، فجعلها الحقّ مَجْلىً له. وإذا كان الشي‏ء مَجْلى للناظر، فلا يرى الناظر في تلك الصورة إلا نفسه. فإذا رأى في هذه المرأة نفسه، اشتدّ حبه فيها وميله إليها، لأنها صورته. وقد تبيّن لك أن صورتَه صورةُ الحقّ التي أوجده عليها، فما رأى إلا الحقّ، ولكن بشهوةِ حبٍّ، والتذاذٍ، وَصِلَةٍ، يفنى فيها فناء حقٍّ بحبٍّ صدق، وقابلها بذاته مقابلة المِثْلِيّة، ولذلك فني فيها، فما من جزء فيه إلا وهو فيها، والمحبة قد سرت في جميع أجزائه، فتعلّق كله بها، فلذلك فنى في مثله الفناء الكلّيّ، بخلاف حبّه غير مثله، فاتّحد بمحبوبه إلى أن قال:‏ أنا مَنْ أهوى ومَنْ أهوى أنا. وقال الآخر في هذا المقام "أنا الله". فإذا أحببتَ مثلك شخصاً هذا الحب، ردّكَ إلى الله شهودُك فيه هذا الردّ، فأنت ممّن أحبّه الله، وكانت هذه الفتنة فتنةً أعطتك المهداة.

وأما الطريقة الأخرى في حبّ النساء؛ فإنهنّ محالُّ الانفعال والتكوين لظهور أعْيان الأمثال في كل نوع، ولا شك أن الله ما أحبّ أعيان العالم، في حال عَدَمِ العالم، إلا لكون تلك الأعيان محلّ الانفعال، فلما توجّه عليها من كونه مُريداً قال لها "كُنْ"، فكانت، فظهر مُلْكُه بها في الوجود، وأعطت تلك الأعيان لله حقَّه في ألوهته، فكان إلهاً، فعبدَتْه تعالى بجميع الأسماء بالحال، سواء علمتْ تلك الأسماء أو لم تعلمها. فما بقي اسمٌ لله، إلا والعبد قد قام فيه بصورته وحاله، وإن لم يعلم نتيجة ذلك الاسم، وهو الذي‏ قال فيه رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في دعائه بأسماء الله "أو استأثرت به في علم غيبك أو علّمته أحداً من خلقك"‏ يعني من أسمائه أن يعرف عينَه حتى يفصله من غيره علماً. فإن كثيراً من الأمور في الإنسان بالصورة والحال، ولا يعلم بها، ويعلم الله منه أن ذلك فيه. فإذا أحبّ المرأة لما ذكرناه فقد ردّه حبُّها إلى الله تعالى، فكانت نِعمتَ الفتنةِ في حقه، فأحبّه اللهُ برجعته إليه تعالى في حبّه إياها.

وأمّا تعلّقه بامرأة خاصة في ذلك دون غيرها، وإن كانت هذه الحقائق التي ذكرناها سارية في كل امرأة، فذلك لمناسبة روحانيّة بين هذين الشخصين في أصل النشأة والمزاج الطبيعي والنظر الروحي، فمنه ما يجري إلى أجل مسمى، ومنه ما يجري إلى غير أجل، بل أجله الموت. والتعلّق لا يزول، كحبّ النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم عائشةَ، فإنه كان يحبها أكثر من حبّه جميع نسائه، وحبه أبا بكر أيضاً، وهو أبوها، فهذه المناسبات الثواني هي التي تعيّن الأشخاص، والسبب الأول هو ما ذكرناه. ولذلك الحب المطلق، والسماع المطلق، والرؤية المطلقة التي يكون عليها بعض عباد الله، ما تختصّ بشخص في العالم دون شخص، فكلّ حاضر عنده، له محبوب وبه مشغول. ومع هذا لا بد من ميلٍ خاصّ لبعض الأشخاص، لمناسبة خاصة مع هذا الإطلاق، لا بد من ذلك، فإن نشأة العالم تعطي في آحاده هذا، لا بد من تقييد، والكامل من يجمع بين التقييد والإطلاق. فالإطلاق مثل‏ قول النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم "حُبِّبَ إليّ من دنياكم ثلاث: النساء.." وما خصّ امرأة من امرأة، ومثل التقييد ما روي مِن حبّه عائشة أكثر من سائر نسائه‏، لنسبة إلهية روحانية قيّدته بها دون غيرها، مع كونه يحب النساء. فهذا قد ذكرنا من الركن الواحد ما فيه كفاية لمن فَهِم.‏

وأما الركن الثاني من بيت الفتن، وهو الجاه المعبَّر عنه بالرئاسة. تقول فيه الطائفة التي لا علم لها منهم "آخر ما يخرج من قلوب الصدّيقين حب الرئاسة"، فالعارفون من أصحاب هذا القول ما يقولون ذلك على ما تفهمه العامة من أهل الطريق منهم، وإنما ذلك على ما نبيّنه مِن مقصود الكُمَّل من أهل الله بذلك. وذلك أن في نفس الإنسان أموراً كثيرة خبّأها الله فيه، وهو "الذي يُخْرِجُ الْخَبْ‏ءَ في السَّماواتِ والْأَرْضِ ويَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وما تُعْلِنُونَ" أي ما ظهر منكم، وما خفي مما لا تعلمونه منكم فيكم، فلا يزال الحق يخرج لعبده من نفسه مما أخفاه فيها ما لم يكن يعرف أن ذلك في نفسه، كالشخص الذي يرى منه الطبيبُ من المرض ما لا يعرفه العليل من نفسه، كذلك ما خبأه الله في نفوس الخلق.

ألا تراه‏ يقول صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم من "عرف نفسَه عرف ربَّه"‏ وما كل أحد يعرف نفسه، مع أن نفسه عينه لا غير ذلك، فلا يزال الحق يخرج للإنسان من نفسه ما خبّأه فيها، فيشهده، فيعلم من نفسه عند ذلك ما لم يكن يعلمه قبل ذلك، فقالت الطائفة الكبيرة "آخر ما يخرج من قلوب الصدّيقين حب الرئاسة" فيظهر لهم إذا خرج، فيحبّون الرئاسة بحبٍّ غير حبّ العامة لها، فإنهم يحبونها من كونهم على ما قال الله فيهم إنه سمعهم وبصرهم، وذَكَرَ جميع قواهم وأعضاءهم. فإذا كانوا بهذه المثابة، فما أحبوا الرئاسة إلا بالله، إذ التقدم لله على العالم، فإنهم عبيده، وما كان الرئيس إلا بالمرؤوس وجوداً وتقديراً، فحبه للمرؤوس أشدّ الحبّ، لأنه المثبِتُ له الرئاسةَ. فلا أحبّ من المَلِك في مُلكه، لأن مُلكه المثبتُ له كوْنَه مَلِكاً، فهذا معنى "آخر ما يخرج من قلوب الصدّيقين حبّ الرئاسة" لهم، فيرونه ويشهدونه ذوقاً، لا أنه يخرج من قلوبهم فلا يحبّون الرئاسة، فإنهم إن لم يحبوها، فما حصل لهم العلم بها ذوقاً، وهي الصورة التي خلقهم الله عليها في‏ قوله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم "إن الله خلق آدم على صورته‏" في بعض تأويلات هذا الخبر ومحتملاته، فاعلم ذلك.

والجاهُ إمضاءُ الكلمة، ولا أمضى كلمةً من قوله "إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ" فأعظم الجاه من كان جاهُه بالله، فيرى هذا العبدُ مع بقاء عيْنه، فيعلم عند ذلك أنه المِثْل الذي لا يُماثلَ، فإنه عبدٌ ربٌّ، والله عزّ وجلّ ربٌّ لا عبد، فله الجمعيّة، وللحق الانفراد.

وأمّا الركن الثالث، وهو المال.‏ وما سمّي المال بهذا الاسم إلا لكونه يُمال إليه طبعاً، فاختبر الله به عباده، حيث جعل تيسير بعض الأمور بوجوده، وعلّق القلوب بمحبة صاحب المال وتعظيمه ولو كان بخيلاً، فإن العيون تنظر إليه بعين التعظيم، لِتَوَهّمِ النفوس باستغنائه عنهم لِمَا عنده من المال، وربما يكون صاحب المال أشدّ الناس فقراً إليهم في نفسه، ولا يجد في نفسه الاكتفاء ولا القناعة بما عنده، فهو يطلب الزيادة مما بيده. ولما رأى العالَم مَيْلَ القلوب إلى ربّ المال لأجل المال، أحبّوا المال. فطلب العارفون وجهاً إلهياً يحبّون به المال، إذ ولا بد من حبه. وهنا موضع الفتنة والابتلاء التي لها الضلالة والمهداة.

فأمّا العارفون فنظروا إلى أمور إلهية، منها قوله تعالى "وأَقْرِضُوا الله قَرْضاً حَسَناً"، فما خاطب إلا أصحاب الجِدَة، فأحبّوا المال ليكونوا من أهل هذا الخطاب، فيلتذّوا بسماعه حيث كانوا، فإذا أقرضوه رأوا "أن الصدقة تقع بيد الرحمن"، فحصل لهم بالمال وإعطائه مناولة الحق منهم ذلك، فكانت لهم وصلة المناولة. وقد شرّف الله آدم بقوله "لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ"، فمن يعطيه عن سؤاله القرضَ أتمّ في الالتذاذ بالشرف ممّن خلقه بيده، فلولا المال ما سمعوا ولا كانوا أهلاً لهذا الخطاب الإلهي، ولا حصل لهم بالقرض هذا التناول الربّاني، فإن ذلك يعمّ الوصلة مع الله، فاختبرهم الله بالمال، ثم اختبرهم بالسؤال منه، وأنزل الحق نفسَه منزلة السائلين من عباده أهلِ الحاجةِ، أهلَ الثروة منهم والمال، بقوله في‏ الحديث المتقّدم في هذا الباب "يا عبدي استطعمتك فلم تطعمني واستسقيتك فلم تسقني"،‏ فكان لهم بهذا النظر حبُّ المال فتنةً مُهداة إلى مثل هذا.

وأمّا فتنة الولد فلكونه سرّ أبيه، وقطعة من كبده، وألصق الأشياء به، فحبّه حبُّ الشي‏ء نفسَه، ولا شي‏ء أحبّ إلى الشي‏ء من نفسه، فاختبره الله بنفسه في صورةٍ خارجةٍ عنه سمّاه "ولداً"، ليرى هل يحجبه النظر إليه عمّا كلّفه الحق من إقامة الحقوق عليه‏، يقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في حق ابنته فاطمة ومكانتها من قلبه المكانة التي لا تُجهَل "لو أن فاطمة بنت محمد سرقت قطعت يدها". وجلد عمر بن الخطاب ابنه في الزنا، فمات، ونفسه بذاك طيبة. وجاد ماعِزٌ بنفسه، والمرأةُ في إقامة الحد عليهما الذي فيه إتلاف نفوسهما، وقال في توبتهما رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم "وأيّ توبة أعظم من أن جادت بنفسها". والجودُ بإقامة الحق المكروه‏ على الولد أعظم في البلاء، يقول الله في موت الولد في حق الوالد "ما لعبدي المؤمن إذا قبضتُ صَفِيَّهُ من أهل الدنيا عندي جزاءٌ إلا الجنة". فمن أحكم هذه الأركان، التي هي من أعظم الفتن وأكبر المحن، وآثَرَ جناب الحق ورعاه فيها، فذلك الرجل الذي لا أعظمَ منه في جنسه.


* الفتوحات المكّية، الباب 560. 

تم عمل هذا الموقع بواسطة