بسم الله الرحمن الرحيم
وصية
(إن كنت والياً فاقضِ بالحقّ بين الناس)
الشيخ الأكبر ابن العربي
وإن كنت والياً؛ فاقضِ بالحقّ بين الناس، "ولا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ الله"، وسبيل الله هو ما شرعه لعباده في كتبه وعلى ألسنة رسله، "الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ الله لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ"، يعني به، والله أعلم، يوم الدنيا، حيث لم يحاسبوا نفوسهم فيه، فإن النسيانَ التركُ. يقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم "حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسَبوا"، ولقد أشهدني الله في هذا مشهداً عظيماً بإشبيلية، سنة ست وثمانين وخمسمائة.
ويوم الدنيا أيضاً هو يوم الدين، أي يوم الجزاء، لما فيه من إقامة الحدود "لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ"، وهذا عين الجزاء، وهو أحسن في حق العبد المذنب من جزاء الآخرة، لأن جزاء الدنيا مُذَكِّرٌ، وهو يوم عمل، والآخرة ليست كذلك، ولهذا قال في الدنيا "لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ"، يعني إلى الله بالتوبة، فيوم الجزاء أيضاً يوم الدنيا كما هو يوم الآخرة، وهو في يوم الدنيا أنفع. فاقضِ بالحقّ، فإن الله قد قضى في الدنيا بالحقّ بما شرعه لعباده، وفي الآخرة بما قال، فإن "القضاة في الدنيا ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار".
والذي أوصيك به، إذا فتح الله عين بصيرتك، ورزقك الرجوع إليه، المسمّى توبة، فانظر أي حالة أنت عليها من الخير لا تزُل عنها: إن كنت والياً، أُثبت على ولايتك، وإن كنت عَزَبا، أثبت على ذلك، وإن كنت ذا زوجة، فلا تطلّق واثبت على ذلك مع أهلك. واشرع في العمل بتقوى الله في الحالة (التي) أنت عليها من الخير، كانت ما كانت، فإن لله في كل حال باب قربة إليه تعالى، فاقرع ذلك الباب يُفتح لك، ولا تحرم نفسك خيره. وأقلّ الأحوال أنك في الحال التي كنت عليها في زمان مخالفتك، إذا ثبتّ عليها عند توبتك، تحمدك تلك الحالة، فإن فارقتها كانت عليك لا لك، فإنها ما رأت منك خيراً، وهذا معنى دقيق لطيف لا ينتبه له كل أحد، فإنها لا تشهد لك إلا بما رأته منك. فإذا رأت منك خيراً شهدت لك به، ولا يفوتك ما ذكرته لك من نيل ما فيها من الخير المشروع، وأعني بذلك كل حال أنت عليها من المباحات، فإن توبتك إنما كان رجوعك عن المخالفات.
وإياك أن تتحرك بحركة إلا وأنت تنوي فيها قربة إلى الله، حتى المباح، إذا كنت في أمر مباح فانوِ فيه القربة إلى الله، من حيث إيمانك به أنه مباح ولذلك أتيته، فتؤجر فيه ولا بدّ. حتى المعصية إذا أتيتها، إِنْوِ المعصية فيها، فتؤجر على الإيمان بها أنها معصية. ولذلك لا تخلص معصية المؤمن أبداً من غير أن يخالطها عمل صالح، وهو الإيمان بكونها معصية، وهم من الذين قال الله فيهم "وآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وآخَرَ سَيِّئاً"، فهذا معنى المخالطة، فالعمل الصالح هنا الايمان بالعمل الآخر السيئ: أنه سيئ، و"عسى" من الله واجبة، فترجع عليهم بالرحمة، فيغفر لهم تلك المعصية بالإيمان الذي خلطها به، فمتعلّق "عسى" هنا: رجوعه سبحانه عليهم بالرحمة، لا رجوعهم إليه، فإنه ما ذكر لهم توبة، كما قال في موضع آخر "ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا"، وهنا جاء بحكم آخر ما فيه ذكر توبتهم، بل فيه توبة الله تعالى عليهم.
والذي أوصيك به أنك لا تنقل مجلساً، ولا تُبلغ ذا سلطان حديثاً إلا خيراً. أخرج الترمذي حديثاً عن حذيفة أو غيره، أنا الشاكّ، أن رجلاً مرّ عليه، فقيل له عنه: إن هذا يبلّغ الأمراء الحديث، فقال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم يقول: "لا يدخل الجنة قتات"، قال أبو عيسى: والقتّاتُ (هو) النمّامُ. وإذا حدّثك إنسان، وتراه يلتفت يميناً وشمالاً يحذر أن يسمع حديثه أحد، فاعلم أن ذلك الحديث أمانة أودعك إياه، فاحذر أن تخونه في أمانته بأن تحدّث بذلك عند أحد، فتكون ممن أدى الأمانة إلى غير أهلها، فتكون من الظالمين، وقد ثبت أن "المجالس بالأمانة". وأما وصيتي لك أن لا تبلغ ذا سلطان حديثاً بِشَرّ، فإن ذلك نميمة، قال تعالى في ذمّه "مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ".
* الفتوحات المكّية، الباب 560.