بسم الله الرحمن الرحيم
وصية
(إياك ومعاداة أهل لا إله إلا الله)
الشيخ الأكبر ابن العربي
وإياك ومعاداة أهل "لا إله إلا الله"، فإن لها من الله الولايةَ العامة، فهم أولياء الله، وإن أخطئوا وجاءوا بقراب الأرض خطايا لا يشركون بالله، لقيهم الله بمثلها مغفرة. ومن ثبتت ولايته فقد حَرُمت محاربته، ومن حارب الله، فقد ذكر الله جزاءه في الدنيا والآخرة. وكل من لم يطلعك الله على عداوته لله فلا تتخذه عدواً، وأقلّ أحوالك إذا جهلته أن تهمل أمره، فإذا تحقّقتَ أنه عدوّ لله، وليس إلا المشرك، فتبرّأ منه كما فعل إبراهيم الخليل عليه السلام في حقّ أبيه آزر، قال الله عزّ وجلّ "فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ"، هذا ميزانك. يقول الله تعالى "لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ من حَادَّ الله ورَسُولَهُ ولَوْ كانُوا آباءَهُمْ"، كما فعل إبراهيم الخليل، "أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ"، ومتى لا تعلم ذلك، فلا تُعادِ عباد الله بالإمكان، ولا بما ظهر على اللسان، والذي ينبغي لك أن تكره فعله لا عيْنَه، والعدو لله إنما تكره عَيْنَه.
ففرِّق بين من تكره عينه وهو عدو الله، وبين من تكره فعله وهو المؤمن، أو من تجهل خاتمته ممّن ليس بمسلم في الوقت. واحذر قوله تعالى في الصحيح "من عادى لي وليّاً فقد آذنتهُ بالحرب"، فإنه إذا جهل أمره وعاداه، فما وفّى حقّ الحق في خلقه، فإنه ما يدري عِلْمَ الله فيه، وما بيّنه الله له حتى يتبرّأ منه ويتخذه عدواً. وإذا علم حاله الظاهر، وإن كان عدواً لله في نفس الأمر، وأنت لا تعلم، فَوَالِهِ لإقامة حق الله، ولا تُعادِهِ، فإن الاسم الإلهيّ "الظاهر" يخاصمك عند الله. فلا تجعل لله عليك حجّة فتهلك، "فإن فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ".
فعامل عباد الله بالشفقة والرحمة، كما أن الله يرزقهم على كفرهم وشركهم مع علمه بهم، وما رزقهم إلا لعلمه بأن الذي هم فيه، ما هم فيه بهم، وهم فيه بهم، لما قد ذكرناه بلسان العموم، فإن الله خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وكفرُهم وشركُهم مخلوقٌ فيهم. وبلسان الخصوص؛ ما ظهر حكمٌ في موجودٍ إلا بما هو عليه في حال العدم في ثبوته الذي علمه الله منه. "فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ" على كل أحد، مهما وقع نزاع ومحاجّة، فيُسلّم الأمر إليه، واعلم أنك على ما كنت عليه.
وعمّ برحمتك وشفقتك جميع الحيوان والمخلوقين، ولا تقل: هذا نبات وجماد ما عندهم خبر، نعم عندهم أخبار، أنتَ ما عندك خبر. فاترك الوجود على ما هو عليه، وارحمه برحمة موجِده في وجوده، ولا تنظر فيه من حيث ما يقام فيه في الوقت "حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ"، فيتعيّن عليك عند ذلك أن تتخذهم أعداء، لأمر الله لك بذلك، حيث نهاك أن تتخذ عدوه وليّاً تلقي إليه بالمودة. فإن اضطرك ضعفُ يقين إلى مداراتهم، فدارِهِم من غير أن تلقي إليهم بمودة، ولكن مسالمةً لدفع الشرّ عنك. ففوِّض الأمر إليه، واعتمد في كل حال عليه إلى أن تلقاه.
* الفتوحات المكّية، الباب 560.