1 قراءة دقيقة
احفظ حقَّ الجارِ والجوار

بسم الله الرحمن الرحيم 

وصية

(احفظ حقَّ الجارِ والجوار)

الشيخ الأكبر ابن العربي

واحفظ حقَّ الجارِ والجوار، وقدِّم الأقرب داراً إليك فالأقرب، وتفقّد جيرانك ممّا أنعم الله به عليك؛ فإنك مسؤول عنهم، وادفع عنهم ما يتضرّرون به، كان الجيران ما كانوا. وما سُمّيتَ جاراً له و(سُمّيَ) جاراً لك، إلا لمَيْلِك إليه بالإحسان ومَيْلِه إليك، ودفع الضّرر مشتقٌّ من جارَ، إذا مال؛ فإن الجَوْرَ (هو) المَيْلُ. فمن جعله من الجور، الذي هو المَيْل إلى الباطل والظلم في العُرف، فهو كمن يسمى اللديغَ سليماً، في النقيض، وفي هذا، فغلبت حقّ الجوار كان الجار ما كان، كأنه يقول: وإن كان الجار من أهل الجور، أي الميل إلى الباطل، بشركٍ أو كُفْر، فلا يمنعنّك ذلك منه عن مراعاة حقّه، فكيف بالمؤمن؟! فحقّ الجار إنّما هو على الجار.

وأعجب ما رويتُه في ذلك عن بعض شيوخنا، فذكر من مناقب بعض الأعراب؛ أن جراداً نزل بفناء بيته، فخرجت الأعراب إليه بالعُدد ليقتلوه ويأكلوه. فقال لهم صاحب البيت: ما تبتغون؟ فقالوا له: نبتغي قتلَ جارك، (يريدون الجراد)، فقال لهم: بعد أن سمّيتموه جاري، فوالله لا أترك لكم سبيلاً إليه. وجرّد سيفه يذبُّ عنه مراعاةً لحقّ الجوار. فهذا كما سُئل مالك بن أنس عن أكل خنزير البحر، فقال: هو حرام. فقيل له: إنه سمك من حيوان البحر الذي أحلّ الله أكلَه لنا. فقال لهم مالك: أنتم سمّيتموه خنزيراً، ما قلتم: ما تقول في سمك البحر؟

فاهجر ما نهاك الله عنه، وقد نهاك عن أذى الجار، فاهجر أذاه، "وادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ". وفيما روينا من الأخبار في سبب نزول هذه الآية "أن أعرابياً جاء إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم من المشركين من فصحاء العرب، وقد سمع أن الله قد أنزل عليه قرآناً عجز عن معارضته فصحاء العرب، فقال له: يا رسول الله هل فيما أنزل‏ عليك ربّك مثل ما قلتُه؟ فقال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم: وما قلتَ؟ فقال الأعرابي: قلتُ:‏

وَحَيِّ ذَوِي الأضْغانِ تَسْبِ عقولَهمُ *** تَحِيَّتُكَ القُرْبى فَقَدْ تَرْفَعِ النَّفَلْ‏

وإنْ هَجَروا بالقولِ فاعْفُ تَكَرُّماً *** وإنْ سَتَروا عنكَ المَلامةَ لَمْ تُبَلْ‏

فإنّ الذي يؤذيكَ مِنهُ استماعُهُ *** وإنَّ الذي قد قيلَ خَلْفَكَ لَمْ يُقَلْ‏

فأنزل الله تعالى "ولا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ ولا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ"، فقال الأعرابيّ: هذا والله هو السِّحر الحلال. والله ما تخيّلت ولا كان في علمي أنه يُزاد أو يُؤتى بأحسن ممّا قلتَه. أشهد أنّك رسول الله، والله ما خرج هذا إلا مِن ذي إِلٍّ".‏ فمثل هؤلاء عرفوا إعجاز القرآن.

أترى يا وليّ يكون هذا الأعرابيّ، فيما وصف به نفسَه، بأكرم من الله في هذا الخُلُق في تحمّل الأذى، وإظهار البِشْر، والمخالفات عن العقوبة، والعفو مع القدرة، وتهوين ما يقبح على النفس، والتغافل عمّن أراد التستّر عنك بما يشينه لو ظهر به؟! بل والله أكرم منه، وأكثر تجاوزاً وعفواً وحلماً، وأصدق قيلاً. فإن هذا القول من العربي، وإن كان حسناً، فما يُدرى عند وقوع الفعل ما يكون منه، والحق صادقُ القولِ بالدليل العقليّ. فما يأمر بمكرمة إلا وهي صفته التي يعامل بها عباده، ولا ينهى عن صفة مذمومة لئيمة إلا وهو أنزه عنها، لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، الغفور الرحيم‏.

انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً: فنُصرةُ الظالم من حيث ما هو مظلوم؛ فإن الشيطان ظَلمه بما وسوسَ إليه به في صدره من ظلمِ غيرِه، فتنصره بأن تعينه على دفعِ ما ألقى الشيطان عنده من تزيينه ظُلمَ الغير، حتى سُمّي بظالم، فما نصرتَه إلا لكونه مظلوماً لِمَن وسوسَ في صدره، وحالَ بينه وبين الهدى الذي هو له مِلْك، فابتاعه منه الشيطان بالضلالة، فاشترى الضلالةَ بالهدى، فسُمّي ظالماً. فإذا أبنتَ له أنتَ بِنُصحك، وأفْتَيْتَه أن هذا البيعَ مفسوخ، لا يجوز شرعاً فلا ينعقد، وأن صفقته خاسرة وتجارته بائرة، فقد نصرتَهُ مع كونه ظالماً، فرجع عن ظُلمه وتاب، وذلك هو فسخ البيع. يقول الله في مثل هؤلاء "أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى‏ فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وما كانُوا مُهْتَدِينَ".

فإيّاك إن تخذل مَن استنصر بك، وقد قال (تعالى) مع غناه عنك "إِنْ تَنْصُرُوا الله يَنْصُرْكُمْ"، فطلب منكم أن تنصروه، وما هو إلا هذا. ولا تظلمه، فإن "الظُّلم ظُلمات يوم القيامة"، ومَن كان سعيه في ظلمة، لا يدري متى يقع في مهواة، أو ما يؤذيه في طريقه من هوامٍ يكون في أذاه هلاكه. وأوصيك: لا تحقّر أحداً من خلقِ الله، فإن الله ما احتقره حين خلقه‏.

لا تُحَقِّرَنَ عَبادَ اللهِ إنَّ لَهُمْ *** قَدْرَاً وَلَوْ جُمِعَتْ لَكَ المَقاماتُ

فلا يكون اللهُ يُظهرُ العنايةَ بإيجاد مَنْ أَوْجَدَه مِن عَدَمٍ، وتحقّره أنت، فإنّ في ذلك تسفيهَ مَن أوجده واحتقارَه، نعوذ بالله أن نكون من الجاهلين، فإن هذا من أكبر الكبائر، فالكلّ نِعَمُ اللهِ يتغذّى بها عبادُ الله، كانوا ما كانوا.

قال صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم "لا تحقَرنْ إحداكنّ ما تهديه لجارتها، ولو فِرْسَنْ شاة" فإن الاحتقار جهلٌ مَحْض. ولا تكن لعّاناً، ولا سَبّاباً، ولا سخّاباً، فإنّ لَعْنَ المؤمنِ مِثلُ قَتلهِ سَواء.

لقي عيسى عليه السلام خنزيراً، فقال له: أُنْجُ بسلام. فقيل له في ذلك، فقال عليه السلام: "ما أريد أن أعوّد لساني إلا قول الخير". كُنْ حديثاً حسناً، وفي ذلك قلت‏:

إنّما الناسُ حديثٌ كُلُّهُمُ *** فَلْتَكُنْ خَيْرَ حَديثٍ يُسْمَعُ‏

وإذا شاكَتْكَ مِنْهم شَوْكَةٌ *** فَلْتَكُنْ أَقْوى مِجَنٍّ يَدْفَعُ‏

وإذا ما كنتَ فيهم هكذا *** أنتَ واللهِ إمامٌ يَنْفَعُ‏

إنّما الشمعةُ تُؤذِي نَفْسَها *** وهي للنّاظرِ نورٌ يَسْطَعُ‏

إنّما اللؤمُ الذي نَعْرِفُهُ *** نعمةٌ في يدِ شخصٍ يَمْنَعُ‏


* الفتوحات المكّية، الباب 560. 

تم عمل هذا الموقع بواسطة