بسم الله الرحمن الرحيم
وصية
(عليك بإسباغ الوضوء على المكارِهِ)
الشيخ الأكبر ابن العربي
وعليك بإسباغ الوضوء على المكارِهِ، وذلك في زمان البرد. واحذر من الالتذاذ باستعمال الماء البارد في زمان الحرّ، فتسبغ الوضوء لالتذاذك به في زمان الحرّ؛ فتتخيّل أنك ممّن أسبغ الوضوء عبادةً، وأنت ما أسبغته إلا لوجود الالتذاذ به، لما أعطاه الحالُ والزمانُ من شدّة الحرّ. فإذا أسبغته في شدّة البرد صار لك عادة، وقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم "الخيرُ عادة". فاصْحَبْ تلك النيّة في زمان الحرّ. فإن غلبتك النفسُ على الإسباغ بما تجده من اللّذة المحسوسة في ذلك؛ فاعلم إن الالتذاذ هنا إنما وقع بدفع ألمِ الحرِّ وإزالته، فانْوِ في ذلك دفعَ الألمِ عن نفسك، ألا ترى قاتل نفسِه كيف حرّم الله عليه الجنة؟ فحقّ النفس على صاحبها أعظمُ من حقّ الغير عليه؛ فكذلك يُؤجَر في دفعِ الألم عن نفسه.
وإن الله يرفع بإسباغ الوضوء على المكاره درجةَ العبد، ويمحُ الله به الخطايا، قال صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم "ألا أنبّئكم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ إسباغُ الوضوء على المكاره" فهذا محو الخطايا، فإنه تنظيفٌ وتطهير، ثم قال "وكثرة الخُطا إلى المساجد" فإنه سلوك في صعودٍ ومَشْي، ثم قال تمام الحديث وهو "وانتظار الصلاة بعد الصلاة؛ فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط"، والرباطُ الملازمة، مِن ربطت الشيء. وبالانتظار قد ألزم نفسه، فربط الصلاة بالصلاة المنتظَرة، بمراقبةِ دخول وقتها ليؤدّيها في وقتها. وأي لزوم أعظم من هذا؟ فإنه يوم واحد مقسّم على خمس صلوات، ما منها صلاة يؤدّيها فيفرغ منها، إلا وقد ألزم نفسه مراقبة دخول وقت الأخرى، إلى أن يفرغ اليوم، ويأتي يوم آخر، فلا يزال كذلك. فما ثَمَّ زمان لا يكون فيه مراقِباً لوقت أداء صلاة، لذلك أكّده (صلّى الله عليه وسلّم) بقوله ثلاث مرات.
فانظر إلى علم رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم بالأمور؛ حتى أنزل كلّ عمل في الدنيا منزلته في الآخرة، وعيّنَ حكمَه، وأعطاه حقَّه، فذكرَ وضوءاً ومشياً وانتظاراً، وذكر مَحْواً ورَفْعَ درجةٍ ورباطاً، ثلاث لثلاث، هذا يدلّك على شهوده مواضعَ الحكم، ومن هنا وأمثاله، قال عن نفسه "إنه أوتيَ جَوامِعَ الكَلِمِ".
* الفتوحات المكّية، الباب 560.