1 قراءة دقيقة
عليك بالجهاد الأكبر، وهو جهادك هَواك

بسم الله الرحمن الرحيم 

وصية

(عليك بالجهاد الأكبر، وهو جهادك هَواك)

الشيخ الأكبر ابن العربي

وعليك بالجهاد الأكبر، وهو جهادك هَواك؛ فإنه أكبر أعدائك، وهو أقربُ الأعداء إليك الذين يَلُونك، فإنه بين جنبيْك، والله يقول سبحانه "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ من الْكُفَّارِ" ولا أكْفَر عندك من نفسك، فإنها في كل نَفَس تَكْفُرُ نعمةَ الله عليها من بعد ما جاءتها. فإنك إذا جاهدتَ نفسك هذا الجهاد، خَلُص لك الجهاد الآخر في الأعداء الذي إن قُتِلت فيه، كنت من الشهداء الأحياء الذين "عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ الله من فَضْلِهِ"، مستبشرين "بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ من خَلْفِهِمْ".

وقد علمتَ فضلَ المجاهد في سبيل الله في حال جهاده، حتى يرجع إلى أهله بما اكتسبه من أجرٍ أو غنيمة، أنه كالصائم القائم القانت بآيات الله، لا يفتر من صلاةٍ ولا من صيام، حتى يرجع المجاهد. وقد علمت بالحديث الصحيح أن الصوم "لا مِثْلَ له"، وقد قام الجهاد مقامَه ومقامَ الصلاة، وثبت هذا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم‏، وهذا في الجهاد الذي فرضه الله تعالى المعيّن، ويعصي الإنسانُ بتركه، لا بدّ من ذلك. ولا يزال العبد العالِم، الناصِح نفسَه، المستبرئ لدينه في جهاد أبداً، لأنه مجبولٌ على خِلافِ ما دعاه إليه الحقّ. فإنه بالأصالة متّبِعٌ هواه، الذي هو بمنزلة الإرادة في حقّ الحقّ:

فيفعلُ الحقُّ ما يريدُهُ *** فإنّنا كلّنا عبيدُهُ

ولا تحجير عليه. ويريد الإنسان أن يفعل ما يهوى، وعليه التحجير؛ فما هو مطلَق الإرادة؛ فهذا هو السبب الموجب في كونه لا يزال مجاهداً أبداً. ولذلك طلب أصحاب الهِمَمِ أن يلحقوا بدرجات العارفين بالله، حتى تكون إرادتهم إرادةَ الحقّ، أي يريدون جميع ما يريده الحقّ، وهو ما هُم الخلق عليه، فيريدونه من حيث أن الله أراد إيجادَه، ويكرهون منه بكراهةِ الحقّ ما كرهه الحقّ، ووصف نفسه بأنه لا يرضاه. فهو يريده ولا يرضاه، ويريده ويكرهه في عين إرادته إن أراد أن يكون مؤمناً، وإن لم يكن كذلك وإلا فقد انسلخ من الإيمان، نعوذ بالله من ذلك، فإنه غاية الحرمان، وهذا هو الحقّ الممقوت كما تقول في الغَيْبة: إنها الحقّ المنهيّ عنه.‏


* الفتوحات المكّية، الباب 560.


تم عمل هذا الموقع بواسطة