بسم الله الرحمن الرحيم
وصية
(عليك بتلاوة القرآن وتَدَبُّرِه)
الشيخ الأكبر ابن العربي
عليك بتلاوة القرآن وتَدَبُّرِه، وانظر في تلاوتك إلى ما حُمِدَ فيه من النّعوت والصفات التي وصف الله بها مَن أحَبَّه من عباده، فاتّصِفْ بها، وما ذمَّ اللهُ في القرآن من النعّوت والصفات التي اتّصفَ بها من مَقته الله، فاجْتَنِبْها، فإن الله ما ذكرها لك وأنزلها في كتابه عليك وعرّفك بها إلا لتعمل بذلك. فإذا قرأتَ القرآن فكن أنتَ القرآن لِمَا في القرآن، واجتهد أن تحفظه بالعمل كما حفظته بالتلاوة، فإنه لا أحد أشد عذاباً يوم القيامة من شخص حفظ آية ثم نسيها. كذلك من حفظ آية ثم ترك العمل بها، كانت عليه شاهدة يوم القيامة وحسرة. وإنه قد ثبت عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في أحوال من يقرأ القرآن ومن لا يقرؤه مِن مؤمن ومنافق، فقال صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم "مَثَلُ المؤمن الذي يقرأ القرآن مَثَلُ الأَترجة ريحها طيّب" يعني بها التلاوة والقراءة، فإنها أنفاسٌ تخرج، فشبّهها بالروائح التي تعطيها الأنفاس، "وطعمها طيّب"، يعني به الايمان، ولذلك قال "ذاق طعمَ الإيمان مَن رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمّد صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم نبياً"، فنسب الطعم للإيمان. ثم قال "ومَثَلُ المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كَمَثَلِ الثمرة طعمها طيب"، من حيث أنه مؤمن ذو إيمان، "ولا ريح لها" من حيث أنه غير تالٍ في الحال التي لا يكون فيها تالياً، وإن كان من حفّاظ القرآن. ثم قال "ومَثَلُ المنافق الذي يقرأ القرآن كَمَثَلِ الريحانة ريحها طيّب"، لأن القرآن طيّب وليس سوى أنفاس التالي والقارئ في وقت تلاوته وحال قراءته، "وطعمها مرّ" لأن النفاق كُفْرُ الباطن، لأن الحلاوة للإيمان؛ لأنها مستلذّة. ثم قال "ومَثَلُ المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمَثَلِ الحنظلة طعمها مرّ ولا ريح لها"، لأنه غير قارئ في الحال.
وعلى هذا المساق كلّ كلام طيّب فيه رضا الله، صورته من المؤمن والمنافق صورة القرآن في التمثيل، غير أن القرآن منزلته لا تخفى، فإن كلام الله لا يضاهيه شيء من كل كلام مقرِّب إلى الله. فينبغي للذاكر إذا ذكر الله متى ذكره، أن يُحْضِر في ذكره ذلك ذكراً من الأذكار الواردة في القرآن، فيذكر الله به، ليكون قارئاً في الذكر، وإذا كان قارئاً فيكون حاكياً للذكر الذي ذكر الله به نفسه، وإذا كان كذلك فقد أنزل نفسَه فيه منزلة ربّه منه، وهو قوله "فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ الله"، وقوله "إن الله قال على لسان عبده: سمع الله لمن حمده".
ويقال للقارئ يوم القيامة "اقرأ وارْقَ"، ورُقِيُّة في الدنيا في أيام التكليف في قراءته؛ أن يرقى من تلاوته إلى تلاوته، بأن يكون الحقّ هو الذي يتلو على لسان عبده، كما يكون سَمْعَه الذي به يسمع، وبصرَه الذي به يبصر، ويديه اللتين بهما يبطش، ورجليه اللتين بهما يسعى، كذلك هو لسانه الذي به ينطق ويتكلم، فلا يحمد الله ولا يسبّحه ولا يهلّله إلا بما ورد في القرآن عن استحضارٍ منه لذلك، فيرقى من قراءته بنفسه إلى قراءته بربّه، فيكون الحقّ هو الذي يتلو كتابه، فيرتفع يوم القيامة في الآية التي ينتهي إليها في قراءته ويقف عندها، إلى الدرجة التي تليق بتلك الآية، التي يكون الحقّ هو التالي لها بلسان هذا العبد، عن حضورٍ من العبد التالي لذلك، فإن أفضل الكلام كلامُ اللهِ الخاصّ المعروف في العُرْف.
* الفتوحات المكّية، 560.