بسم الله الرحمن الرحيم
وصية
(عليك بحسن الأخلاق)
الشيخ الأكبر ابن العربي
وعليك بحسن الأخلاق، وإتيان مكارمها، وتجنّب سفسافها، فإن النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم يقول "إنما بُعثتُ لأتمّمَ مكارمَ الأخلاق"، وأنه صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم قد ضمن بيتاً في أعلى الجنة لمن حسّن خُلقه. ولما كانت الأخلاق الحسنة عبارة عن أن نفعل مع المتخلّق معه الذي يصرف أخلاقه معه في معاملته إياه، وعلمنا أن أغراض الخلق متقابلة، وأنه إن أرضى زيداً أسخط عدوّه عمراً، ولا بد من ذلك، فمن المُحال أن يقوم في خلق كريم يُرضي جميع الخلائق.
ولمّا رأينا أن الأمر على هذا الحدّ، وأدخل الله نفسَه مع عباده في الصحبة، كما ثبت عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم أنه قال لربه "أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل"، وقال (تعالى) "وهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ"، وقال "إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا"، وقال "إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وأَرى"؛ قلنا: فلا نصرف مكارم الأخلاق إلا في صحبة الله خاصّة، فكل ما يرضي الله نأتيه، وكل ما لا يرضيه نجتنبه، وسواء كانت المعاملة والخُلُق مما يخصّ جانب الحق أو تتعدّى إلى الغير، وأنها وإن تعدّت إلى الغير، فإنها مما يرضى الله، وسواء عندك سخط ذلك الغير أو رضي. فإنه إن كان مؤمناً رضي بما يرضى الله، وإن كان عدواً لله فلا اعتبار له عندنا، فإن الله يقول "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ"، وقال "لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ". فحسنُ الخلق إنما هو فيما يرضي الله، فلا تصرفه إلا مع الله، سواء كان ذلك في الخَلق، أو فيما يختصّ بجناب الله.
فمن راعى جناب الله انتفع به جميع المؤمنين وأهل الذمّة، فإن لله حقّاً على كل مؤمن في معاملة كل أحد من خلق الله على الإطلاق من كل صنف من مَلَك، وجانّ، وإنسان، وحيوان، ونبات، وجماد، ومؤمن، وغير مؤمن. وقد ذكرنا ذلك في رسالة "الأخلاق" لنا، كتبنا بها إلى بعض إخواننا سنة إحدى وتسعين وخمسمائة، وهي جزء لطيف غريب في معناه، فيه معاملة جميع الخَلق بالخُلق الحسن الذي يليق به. وحسن الخُلُق بحسب أحوال من تُصَرِّفها فيه ومعه، هذا أمر عام، والتفصيل فيه لك بالواقع، فانظر فيه، فإنه أكثر من أن تُحصى آحاده، لما في ذلك من التطويل، والله الموفّق لا ربّ غيره.
وكذلك تجنّب سفساف الأخلاق، ولا تَعرف مكارم الأخلاق من سفسافها إلا حتى تَعرف مصارفَها، فإذا علمتَ مصارفها، علمتَ مكارمها وسفسافها، وهو علمٌ خفيٌّ شريفٌ. فلا يفوتنّك علم مصارف الأخلاق، فإن ذلك يختلف باختلاف الوجوه.
* الفتوحات المكّية، الباب 560.