بسم الله الرحمن الرحيم
وصية
(عليك بحفظ جوارحك)
الشيخ الأكبر ابن العربي
عليك بحفظ جوارحك، فإنه من أرسل جوارحه أتعب قلبه، وذلك أن الإنسان لا يزال في راحة حتى يرسل جوارحه، فربما نظر إلى صورة حسنة تعلّق قلبه بها، ويكون صاحب تلك الصورة من المنعة بحيث لا يقدر هذا الناظر على الوصول إليها، فلا يزال في تعب من حبها يسهر الليل ولا يهنأ له عيش، هذا إذا كان حلالاً، فكيف به إن كان أرسله فيما لا يحلّ له النظر إليه. فلهذا أمرنا بتقييد الجوارح، فإن زنى العيون النظر، وزنى اللسان النطق بما حرّم عليه، وزنى الأذن الاستماع إلى ما حجر عليه، وزنا اليد البطش، وزنى الرجل السعي، وكل جارحة تصرفتْ فيما حُرِّم عليها التصرف فيه؛ فذلك التصرف منها على هذا الوجه الحرام هو زناها.
فاللسان، يقول بعضهم: هو الذي أوردني الموارد المهلكة. وقال صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم "وهل يُكِبًّ الناس على مناخرهم في النار إلا حصائدُ ألسنتهم". قال الله تعالى "يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وأَيْدِيهِمْ وأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ"، يعني: بها؛ فتقول اليد: بطش بي في كذا، يعني في غير حق فيما حرّم عليه البطش فيه. وتقول الرِّجلُ كذلك، واللسان والبصر وجميع الجوارح كذلك؛ "إِنَّ السَّمْعَ والْبَصَرَ والْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا". خرّج مسلم عن محمد بن أبي عمر، عن سفيان، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قالوا: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم: "والذي نفسي بيده لا تُضارّون في رؤية ربكم، فيلقي العبد فيقول: أي فل؛ ألم أُكرمك، وأسوّدك، وأزوّجك، وأسخّر لك الخيل والإبل، وأَذَرك ترأس وتربع؟ فيقول: بلى يا رب. فيقول: أفظننتَ أنك مُلاقيّ؟ فيقول: آمنت بك وبكتابك وبرسلك، وصلّيت وصمت، وتصدّقت، ويثني بخير ما استطاع. فيقول: ها هنا إِذَنْ. قال: ثم يقال له: الآن نبعث شاهداً عليك. ويتفكّر في نفسه: من ذا الذي يشهد عليّ؟ فيُختم علي فيه، ويقال لفخذه أنطقي، فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله، وذلك ليعذر من نفسه، وذلك المنافق وذلك الذي سخط الله عليه".
وقد ورد في الحديث الثابت في أمر الدنيا "إن الساعة لا تقوم حتى تكلم الرجلَ فَخْذُهُ بما فعل أهله وعذبَةُ سوطه"، وقد قيل في التفسير: إن الميت الذي أحياه الله في بني إسرائيل في حديث البقرة في قوله "اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها"، قال: ضُرِب بفخذها وإن الله ما عيّن ذلك البعض، فاتّفق أن ضربوه بالفخذ. فاحذر يا أخي يوماً تشهد فيه عليك الجلود والجوارح، وأنصف من نفسك، وعامل جوارحك بما تشكرك به عند الله.
ولقد رأينا ذلك عياناً في الدنيا في زمان الأحوال التي كنا فيها، أعني نطق الجوارح، إذا أراد العبد أن يصرفها فيما لا يجوز شرعاً، تقول له الجارحة: "يا هذا لا تفعل لا تجبرني على فعل ما حجر عليك فعله، فإني شهيد عليك يوم القيامة، فاجعلني شاهداً لك لا عليك، واصحبني بالمعروف"، وهو في غفلة لا يسمع، فإذا وقع منه الفعل، تقول الجارحة: "يا ربّ، قد نهيتُه كما نهيتَه، فلم يسمع، اللهم إني أبرأ إليك مما وصل إليه من مخالفتك بي". وعلى كل حال فإرسال الجوارح يؤدي إلى تعب القلب، فإن الله خلقك لك واصطفى منك، لنفسه، قلبك، وذكر أنه يَسَعه إذا كان مؤمناً تقيّاً ذا ورع.
فإذا شغلته بما تصرّفتْ فيه جوارحك، كنتَ ممّن غصب الحقَّ فيما ذكر أنه له منك، وأي ظلم أعظم من ظلم الحق، فلا تجعل الحق خصمك، فإن لله الْحُجَّةُ الْبالِغَة، كما ذكر عن نفسه بكل وجه. أشهدني الله حجته على خلقه؛ كيف تقوم؛ وذلك في أن العلم يتبع المعلوم إن فهمتَ، فأكثر من هذا التصريح ما يكون.
* الفتوحات المكّية، الباب 560.