بسم الله الرحمن الرحيم
وصية
(عليك بعيادة المرضى)
الشيخ الأكبر ابن العربي
وعليك يا أخي بعيادة المرضى لما فيها من الاعتبار والذكرى، فإن الله خلق الإنسان من ضَعْفٍ، فينبّهك النظر إليه في عيادتك على أصلك، لتفتقر إلى الله في قوة يقوّيك بها على طاعته، وأن الله عند عبده إذا مرض. ألا ترى إلى المريض ما له استغاثة إلا بالله؟ ولا ذِكْر إلا "الله"؟ فلا يزال الحقّ بلسانه منطوقاً به، وفي قلبه التجاءٌ إليه. فالمريض لا يزال مع الله، أيّ مريض كان، ولو تطبّب وتناول الأسباب المعتادة، لوجود الشفاء عندها، ومع ذلك فلا يغفل عن الله، وذلك لحضور الله عنده. وإن الله يوم القيامة يقول: "يا ابن آدم، مرضتُ فلم تَعُدْني. قال: يا ربّ، كيف أعودك وأنت ربّ العالمين؟ قال: أما علمتَ أن عبدي فلاناً مرض فلم تَعُده، أما أنك لو عُدْتَه لوجدتني عنده" الحديث، وهو صحيح. فقوله "لوجدتني عنده"، هو ذكر المريض ربّه في سرّه وعلانيته.
وكذلك إذا استطعمكَ أحد من خلق الله أو استسقاك، فأطعمه واسْقِه إذا كنت موجِداً لذلك، فإنه لو لم يكن لك من الشرف والمنزلة إلّا أن هذا المستطعِم والمستسقي قد أنزلك منزلة الحقّ الذي يطعم عباده ويسقيهم، وهذا نظرٌ قلّ من يعتبره. انظر إلى السائل إذا سأل ويرفع صوته يقول: بالله أعطني، فما نطّقه الله إلا باسمه في هذه الحال، وما رفع صوته إلا ليسمعكَ أنت حتى تعطيه، فقد سمّاك بالاسم الله، والتجأ إليك برفع الصوت التجائه إلى الله، ومن أنزلك منزلةَ سيّده فينبغي لك أن لا تحرمه وتبادر إلى إعطائه ما سألك فيه.
فإن في هذا الحديث الذي سقناه آنفاً في مرض العبد أن الله يقول "يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني، قال: يا رب كيف أطعمك وأنت ربّ العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلاناً استطعمك فلم تطعمه، أما لو أطعمته لوجدت ذلك عندي. يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني. قال: يا رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلاناً استسقاك فلم تُسْقِه، أما لو سَقَيْتَه لوجدت ذلك عندي" خرج هذا الحديث مسلم، عن محمد بن حاتم عن نهز عن حماد بن سلمة عن ثابت عن أبي رافع عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلمّ "فأنزل الله نفسَه في هذا الخبر منزلة عبده".
فالعبد الحاضر مع الله، الذاكر الله في كل حال في مثل هذه الحال، يرى الحق أنه الذي استطعمه واستسقاه؛ فيبادر لما طلب الحق منه، فإنه لا يدري يوم القيامة لعلّه يُقام في حالِ هذا الشخص الذي استطعمه واستسقاه من الحاجة، فيكافئه الله على ذلك. وهو قوله "لوجدتَ ذلك عندي"، أي تلك الطعمة والشربة كنتُ أرفعها لك وأُربيها، حتى تجيءَ يوم القيامة فأردّها عليك أحسن وأطيب وأعظم مما كانت.
فإن لم تكن لك همّة أن ترى هذا الذي استسقاك قد أنزلك منزلةَ من بيده قضاء حاجته، إذ جعلك الله خليفة عنه، فلا أقلّ أن تقضي حاجة هذا السائل بنيّة التجارة طلباً للربح، وتضاعف الحسنة. فكيف إذا وقفت على مثل هذا الخبر، ورأيت أن الله هو الذي سألك ما أنت مستخلَفٌ فيه، فإن الكل لله، وقد أمرك بالإنفاق مما استخلفك فيه، فقال "وأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ"، وعظَّمَ الأجر فيه إذا أنفقت.
فلا تردّ سائلاً ولو بكلمة طيبة، والْقَهُ طلْق الوجه مسروراً به، فإنك إنما تلقى الله. وكان الحسين أو الحسن، عليهما السلام، إذا سأله السائل، سارع إليه بالعطاء ويقول "أهلاً والله وسهلاً بحامل زادي إلى الآخرة"، لأنه رآه قد حمل عنه، فكان له مثل الراحلة. لأن الإنسان إذا أنعم الله عليه نعمة، ولم يحمل فضلَها غيرُه، فإنه يأتي بها يوم القيامة وهو حامِلُها حتى يُسأَل عنها. فلهذا كان الحسن يقول إن السائل حامل زاده إلى الآخرة، فيرفع عنه مئونة الحِمْل.
* الفتوحات المكّية، الباب 560.