بسم الله الرحمن الرحيم
وصية
(عليك بمجالسة من تنتفع بمجالسته في دينك)
الشيخ الأكبر ابن العربي
وعليك بمجالسة من تنتفع بمجالسته في دينك مِن علمٍ تشهده منه، أو عملٍ يكون فيه، أو خُلُقٍ حَسَنٍ يكون عليه؛ فإن الإنسان إذا جالس مَن تُذَكِّرُه مجالسته الآخرة، فلا بدّ أن يتحلّى منها بقدر ما يوفّقه الله لذلك. وإذا كان الجليس له هذا التعدّي، فاتَّخِذ الله جليساً بالذكر، والذكرُ القرآنُ، وهو أعظمُ الذكر، قال تعالى "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ" يعني القرآن، وقال "أنا جليسُ من ذكَرني". وقال صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم "أهلُ القرآن هم أهل الله وخاصّته" وخاصّةُ المَلِكِ جُلَساؤه في أغلب أحوالهم، والله له الأخلاق، وهي الأسماء الحسنى الإلهيّة، فمن كان الحقُّ جليسَه فهو أنيسه، فلا بد أن ينال من مكارم أخلاقه على قدر مدّة مجالسته.
ومن جلس إلى قوم يذكرون الله فإن الله يدخله معهم في رحمته "فهم القوم الذين لا يشقى جليسهم"، فكيف يشقى من كان الحق جليسه، وقد ورد في الحديث الثابت "إن الجليس الصالح كصاحب المسك إن لم يصبك منه أصابك مِن ريحه. والجليس السوء كصاحب الكير إن لم يصبك من شَرَرِه أصابك من دخانه" وهو أنه مَن خالط أصحاب الرِّيَب؛ ارتيب فيه، وذلك لما غلب على الناس من سوء الظن بالناس لِخُبْثِ بواطنهم.
وهنا فائدة أنبّهك عليها أغفلها الناس، وهي تدعو إلى حسن الظن بالناس، ليكون محلّك طاهراً من السوء. وذلك أنك إذا رأيت من يعاشر الأشرار، وهو خَيِّرٌ عندك، فلا تسيء الظن به لصحبته الأشرار، بل حَسِّن الظنَّ بالأشرار لصحبتهم ذلك الخَيِّر، واجعل المناسبة في الخَيْرِ لا في الشر، فإن الله ما سأل أحداً قطّ يوم القيامة عن حسن الظن بالخلق، ويسأله عن سوء الظن بالخلق. ويكفيك هذا نصحاً إن قبلت، ووصيّةً إن قلتَ بها.
والذاكرُ ربّه حياته متصلة دائماً لا تنقطع إلا بالموت، فهو حيٌّ ـ وإن مات ـ بحياةٍ هي خير وأتمّ من حياة المقتول في سبيل الله، إلا أن يكون المقتول في سبيل الله من الذاكرين، فهي حياة الشهيد وحياة الذاكر. فالذاكر حيٌّ وإن مات، والذي لا يذكر الله ميّتٌ وإن كان في الدنيا من الأحياء، فإنه حيّ بالحياة الحيوانية، وجميع العالم حيّ بحياة الذكر. فَمَثَلُ الذي يذكر ربّه والذي لا يذكر ربّه مَثَل الحيّ والميّت، كذا مثّله رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم.
وأمّا ما ادّعيتُه أن الذاكر أفضل من الشهيد الذي لا يذكر الله؛ فَلِما صحّ عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في قوله "ألا أنبّئكم" أو كما قال "بخيرٍ لكم من أن تلقوا عدوّكم فيضرب رقابَكم وتضربون رقابهم؟ ذِكْرُ الله" فَذَكَرَ ضربَ الرقاب، وهو الشهادة، فَذِكْرُ العبدِ ربّه أفضل من قتل الشهيد، وثبت عنه أن الذاكر حيّ، فخرج من ذلك أن حياة الذاكر خيرٌ من حياة الشهيد إذا لم يكن (الشهيد) ذاكراً ربّه عزّ وجلّ.
* الفتوحات المكّية، الباب 560.