بسم الله الرحمن الرحيم
وصية
(عليك بمراعاة كل مسلم)
الشيخ الأكبر ابن العربي
وعليك بمراعاة كل مسلم من حيث هو مسلم، وساوِ بينهم كما سوّى الإسلام بينهم في أعيانهم، ولا تقل: هذا ذو سلطان وجاهٍ ومال وكبير، وهذا صغيرٌ وفقيرٌ وحقير. ولا تحقّر صغيراً ولا كبيراً في ذمّته، واجعل الإسلام كلّه كالشخص الواحد، والمسلمين كالأعضاء لذلك الشخص، وكذلك هو الأمر. فإن الإسلام ما له وجود إلا بالمسلمين، كما أن الإنسان ما له وجود إلا بأعضائه وجميع قواه الظاهرة والباطنة. وهذا الذي ذكرناه هو الذي راعاه رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم فيما ثبت عنه من قوله في ذلك "المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمّتهم أدناهم، وهم يدٌ واحدة على مَن سِواهم" وقال "المسلمون كرجل واحد إن اشتكى عينُه اشتكى كلُّه، وإن اشتكى رأسُه اشتكى كلُّه". ومع هذا التمثيل فأنْزِل كلَّ واحدٍ منزلته، كما أنك تعاملّ كل عضوٍ منك بما يليق به، وما خُلِقَ له، فتغضّ بصرك عن أمرٍ لا يعطيه السمع، وتفتح سمعك لشيء لا يعطيه البصر، وتصرف يدك في أمرٍ لا يكون لرجلك، وهكذا جميع قواك؛ فتنزل كلّ عضوٍ منك فيما خُلِقَ له.
كذلك؛ وإن اشترك المسلمون في الإسلام، وساويت بينهم؛ فأعطِ العالِمَ حقَّه من التعظيم والإصغاء إلى ما يأتي به، وأعطِ الجاهلَ حقَّه مِن تذكيرك إيّاه وتنبيهه على طلبِ العلم والسعادة، وأعطِ الغافلَ حقَّه بأن توقظه من نوم غفلته بالتذكّر لما غفلَ عنه، ممّا هو عالِم به غير مستعمِل علمَه، وكذلك الطائع والمخالِف.
وأعطِ السلطانَ حقَّه من السمع والطاعة فيما هو مباحٌ لك فعلُه وتركُه؛ فيجب عليك بأمره ونهيه أن تسمع له وتطيع، فيعود لأمرِ السلطان ونهيه ما كان مباحاً قبل ذلك؛ واجباً أو محظوراً بالحكم المشروع من الله، في قوله "وأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ". وأعطِ الصغيرَ حقَّه من الرّفق به والرحمة له والشفقة عليه، وأعطِ الكبيرَ حقَّه من الشرف والتوقير، فإن من السنّة رحمة الصغير، وتوقير الكبير ومعرفةُ شرفه. ثبت عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم أنه قال "ليس منّا من لم يرحم صغيرنا ويعرف شرفَ كبيرنا" وفي حديث "ويوقّر كبيرَنا".
وعليك برحمة الخلق أجمع، ومراعاتهم كانوا ما كانوا، فإنهم عبيد الله وإن عَصوا، وخلقُ الله وإن فَضُلَ بعضُهم بعضاً. فإنك إذا فعلتَ ذلك أُوجِرْتَ، فإنه صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم قد ذكر أنه "في كلّ ذي كبد رطبة أجر"، ألا ترى إلى الحديث الوارد في البغيّ "أن بغيّاً من بغايا بني إسرائيل، وهي الزانية، مرّت على كلب قد خرج لسانه من العطش، وهو على رأس بئر. فلمّا نظرت إلى حاله، نزعت خُفَّها، وملأته بالماء من البئر، وسقت الكلب، فشكر اللهُ فعلَها، فغفرَ لها بكلب".
وأخبرني الحسن الوجيه المدرس بملطيّة الفارسيّ عن والي بخارى، وكان ظالماً مُسرفاً على نفسه، فرأى كلباً أجرب في يوم شديد البرد وهو ينتفض من البرد، فأمر بعض شاكريّته، فاحتمل الكلبَ إلى بيته وجعله في موضعٍ حارّ، وأطعمه وسقاه، ودفئ الكلب. فرأى (الوالي) في النوم، أو سمع هاتفاً ــ الشكُّ منّي ــ يقول له: "يا فلان، كنتَ كلباً فوهبناكَ لكلب"، فما بقي إلا أياماً يسيرة ومات، فكان له مشهد عظيم لشفقته على كلب، وأين المسلم من الكلب؟
فافعل الخير، ولا تبالي فيمن تفعله؛ تكن أنت أهلاً له، ولتأتِ كلَّ صفة محمودة من حيث ما هي من مكارم الأخلاق تتحلّى بها، وكن محلّاً لها؛ لشرفها عند الله، وثناءِ الحقّ عليها. فاطلب الفضائل لأعيانها، واجتنب الرذائل العرفيّة لأعيانها، واجعل الناس تبعاً، لا تقف مع ذَمِّهم ولا حمدهم، إلا أنك تقدّم الأَوْلى فالأَوْلى، إن أردتَ أن تكون مع الحكماء المتأدّبين بآداب الله التي شرعها للمؤمنين على ألسنة الرسل عليهم السلام. واعلم أن "المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص، يشدّ بعضه بعضاً"، وما في العالم إلا مؤمن، لأن ما في العالم إلا مَن هو ساجد لله، إلا بعض الثقليْن من الجنّ والإنس، فإن في الإنسان الواحد منهم كثيرٌ ممن يسبّح الله ويسجد لله، وفيه مَن لا يسجد لله، وهو الذي حقّ عليه العذاب.
انظر في قوله "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا" فسمّاهم مؤمنين، وأمرهم بالإيمان، فالأول عُمومُ الايمان، فإن الله قال في حقّ قوم "والَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ"، والثاني خُصوص الإيمان، وهو المأمور به. والأول إقرارٌ منهم من غير أن يقترن به تكليف بل ذلك عن علم، وأيسرُه في بني آدم حين أشهدَهم على أنفسهم، كما قال "وإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ من بَنِي آدَمَ من ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى" فخاطبهم بالمؤمنين حين أَيَّهَ بهم، ثم أمرهم بالإيمان في هذه الحالة الأخرى، وما تعرّضَ للتوحيد المطلق؛ رحمةً بهم، فإنه القائل "وما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وهُمْ مُشْرِكُونَ" الشركَ الخفيّ، وقد ذكرناه، فلذلك قال لهم "آمِنُوا بِاللَّهِ"، ولم يقل "بتوحيد الله"، فمن آمن بوجود الله فقد آمن، ومن آمن بتوحيده فما أشرك. فالإيمان إثباتٌ، والتوحيد نَفْيُ شريك. ومن أسماء الله "المؤمن"، وهو يشدّ من المؤمن المخلوق. قال صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم "يرحم الله أخي لوطاً لقد كان يأوي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ" وهو الاسم "المؤمن"، فالمؤمن، يشدّ من المؤمن، فافهم.
* الفتوحات المكّية، الباب 560.