1 قراءة دقيقة
عليك بمراقبة الله عزّ وجلّ فيما أخذ منك وفيما أعطاك

بسم الله الرحمن الرحيم 

وصية

(عليك بمراقبة الله عزّ وجلّ فيما أخذ منك وفيما أعطاك)

الشيخ الأكبر ابن العربي 

عليك بمراقبة الله عزّ وجلّ فيما أخذ منك وفيما أعطاك، فإنه تعالى ما أخذ منك إلا لتصبر، فيحبّك، فإنه يُحِبُّ الصَّابِرِينَ. وإذا أحبّك عاملك معاملة المحبّ محبوبَه، فكان لك حيث تريد إذا اقتضت إرادتك مصلحتك، وإذا لم تقتض إرادتك مصلحتك، فعل بحبه إياك معك ما تقتضيه المصلحة في حقك. وإن كنت تكره في الحال فعلَه معك، فإنك تحمد بعد ذلك عاقبةَ أمرك، فإن الله غير متّهم في مصالح عبده إذا أحبه. فميزانك في حبه إياك؛ أن تنظر إلى ما رزقك من الصبر على ما أخذه منك ورزأك فيه، من مال أو أهل، أو ما كان مما يعزّ عليك فراقه. وما من شي‏ء يزول عنك من المألوفات إلا ولك عوض منه عند الله، إلا الله، كما قال بعضهم‏

لكلِّ شي‏ءٍ إذا فارَقْتَهُ عِوَضٌ *** وليسَ للهِ إنْ فارقتَ مِنْ عِوَضِ

فإنه لا مِثل له. وكذلك إذا أعطاك وأنعم عليك، ومن جملة ما أنعم به عليك وأعطاك الصبر على ما أخذه منك، فأعطاك لتشكر، كما أخذ منك لتصبر، فإنه تعالى يحب الشاكرين، وإذا أحبك حبّ الشاكرين غفر لك‏. قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في "رجل رأى غصن شوك في طريق الناس، فنحّاه، فشكر اللهُ فعلَه، فغفر له"‏ فإن‏ "الإيمان بضعٌ وسبعون شُعْبة، أدناها إماطةُ الأذى عن الطريق" وهو ما ذكرناه، وأرفعها قول "لا إله إلا الله". فالمؤمن الموفَّق يبحث عن شُعَب الايمان فيأتيها كلها، وبحثه عن ذلك من جملة شُعَب الإيمان، فذلك هو المؤمن الذي حاز الصفة وملأ يديه من الخير.

وما شكرك الله بسبب أمر أتيته مما شرع لك الإتيان به، إلا لتزيد في أعمال البرّ. كما أنك إذا شكرته على ما أنعم به عليك زادك من نعمه، لقوله "لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ"، ووصف نفسه بأنه يشكر عباده فهو الشكور، فَزِدْهُ كما زادك لشكرك. ومع هذا فاعتقد أن كل شي‏ء عِنْدَهُ بِمِقْدار، وكل شي‏ء في الدنيا يجري إلى أجل مسمى عند الله، فما ثَمَّ شي‏ء في العالم إلا وهو لله، فإن أخذه منك فما أخذه إلا إليه، وإن أعطاك فما أعطاك إلا منه، فالأمر كله منه وإليه.

وكفى بك، إذا علمت أن الأمر على ما أعلمتك، أن تكون مع الله، تشهده في جميع أحوالك من أخذ وعطاء، فإنك لن تخلو في نفسك من أخذ وعطاء في كل نَفَس. أول ذلك أنفاسك التي بها حياتك، فيأخذ منك نفسك الخارج بما خرج من ذِكْرٍ بقلبٍ أو لسان، فإن كان خيراً ضاعف لك أجره، وإن كان غير ذلك فمن كرمه وعفوه يغفر لك ذلك، ويعطيك نفسَك الداخل بما شاءه، وهو وارِدُ وقتك، فإن وَرَدَ بخير فهو نعمة من الله، فقابِلْها بالشكر، وإن كان غير ذلك مما لا يُرضي، الله فاسأله المغفرة والتجاوز والتوبة، فإنه ما قضى بالذنوب على عباده إلا ليستغفروه، فيغفر لهم، ويتوبوا إليه، فيتوب عليهم.

وورد في الحديث "لو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون ويتوبون فيغفر الله لهم ويتوب عليهم‏" حتى لا يتعطّل حكم من الأحكام الإلهية في الدنيا. ورد في الصحيح عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم أنه قال "لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شي‏ء عنده بأجل مسمى" فإذا انتهى أجله انقضى وجاء غيره‏، وإنما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم هذا معرّفاً إيانا بما هو الأمر عليه، لنسلّم الأمر إليه، فنُرزَق درجة التسليم والتفويض، مع بذل المجهود فيما يحبّ منا أن نرجع إليه فيه بحسب الحال: إن كان في المخالفة فبالتوبة والاستغفار، وفي الموافقة بالشكر وطلب الإقامة على طاعة الله وطاعة رسوله، ونجد عزاء في نفوسنا بمعرفتنا أن كل شي‏ء عند الله في الدنيا يجري إلى أجل مسمى، وللصابرين حمدٌ يخصّهم وهو "الحمد لله على كل حال"، وللشاكرين حمد يخصّهم وهو "الحمد لله المنعِم المفضِل" كذا كان يحمد رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم ربَّه عزّ وجلّ في حالة السرّاء والضرّاء. والتأسّي برسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في ذلك أَوْلى من أن نستنبط حمداً آخر، فإنه لا أعلى مما وضعه العالِم المكمّل الذي شهد الله له بالعلم به، وأكرمه برسالته واختصاصه، وأمرنا بالاقتداء به واتباعه.

فلا تُحْدِث أمراً ما استطعت، فإنك إذا سننتَ سنّة لم يجي‏ء مثلها عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم، وهي حسنة، فإن لك أجرها وأجر من عمل بها، وإذا تركت تسنينها، اتباعاً لكون رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم لم يسنّها، فإن أجرك في اتباعك ذلك، أعني ترك التسنين، أعظم من أجرك من حيث ما سننتَ بكثير، فإن النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم كان يكره كثرة التكليف على أمّته، وكان يكره لهم أن يسألوا في أشياء، مخافة أن ينزل عليهم في ذلك ما لا يطيقونه إلا بمشقّة. ومن سنَّ فقد كلّفَ، وكان النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم أَوْلى بذلك، ولكن تركه تخفيفاً، فلهذا قلنا الاتباع في الترك أعظم أجراً من التسنين، فاجعل بالك لما ذكرته لك.

ولقد بلغني عن الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه أنه ما أكل البطيخ، فقيل له في ذلك، فقال "ما بلغني كيف كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم يأكله" فلما لم تبلغ إليه الكيفية في ذلك تركه، وبمثل هذا تقدّم علماء هذه الأمة على سائر علماء الأمم، هكذا هكذا وإلا فلا لا. فهذا الإمام عَلِمَ وتَحَقَّقَ معنى قوله تعالى عن نبيه صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم "فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله" وقوله "لَقَدْ كانَ لَكُمْ في رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ". والاشتغال بما سنَّ من فِعلٍ وقولٍ وحالٍ أكثر من أن نحيط به، فكيف أن نتفرّغ لِنَسُنّ، فلا نكلّف الأمّة أكثر مما ورد.


* الفتوحات المكّية، الباب 560.

تم عمل هذا الموقع بواسطة