1 قراءة دقيقة
في وصيّة حكميّة ينتفع بها المريد السالك والواصل

بسم الله الرحمن الرحيم

في وصيّة حكميّة ينتفع بها المريد السالك والواصل ومن وقف عليها إن شاء الله تعالى

الشيخ الأكبر ابن العربي


وصّى الإلهُ وأوصتْ رسلُهُ فَلِذا *** كان التأسّي بهم من أفضل العملِ

لولا الوصية كان الخَلْقُ في عَمَهٍ *** وبالوصية دارَ المُلكُ في الدّوَلِ‏

فاعمل عليها ولا تُهمل طريقتها *** إن الوصية حُكْمُ الله في الأزلِ‏

ذكرتُ قوماً بما أوصى الإله به *** وليس إحداثُ أمرٍ في الوصية لي‏

فلم يكن غير ما قالوه أو شَرَعوا *** من السلوك بهم في أقوم السُّبُلِ‏

فَهَدْيُ أحَمْد عينُ الدين أجمعه *** وملّة المصطفى من أَنْوَرِ المِلَلِ‏

لم تَطْمِسِ العينَ بل أعطته قوّتَها *** حتى يُقِيْمَ الذي فيه من المَيَلِ‏

وخُذْ بسرّك عنه من مراكزه *** علوّاً إلى القمرِ العالي إلى زُحَلِ‏

إلى الثوابتِ لا تنزل بساحتها *** وانهض إلى الدرج العالي من الحَمَلِ‏

ومنه للقَدَمِ الكرسيِّ ثمّ إلى *** العرشِ المحيطِ إلى الأشكالِ والمُثُلِ‏

إلى الطبيعةِ للنفسِ النزيهةِ للعقلِ *** المُقيَّد بالأعراضِ والعِلَلِ‏

إلى العَمَاءِ الذي ما فوقه نَفَسٌ *** منه إلى المنزلِ المنعوتِ بالأزَلِ‏

وانظرْ إلى الجبلِ الراسي على الجبلِ *** وقد رآه فلم يبرحْ ولم يَزُلِ‏

لولا العُلُوّ الذي في السُّفْلِ ما سَفُلَتْ *** وُجوهُنا تطلب المرئيَّ بالمُقَلِ‏

لذلكم شرَعَ اللهُ السجودَ لنا *** فنشهدُ الحقَّ في عُلْوٍ وفي سُفُلِ‏

هذي وصيّتنا إن كنت ذا نظرٍ *** فإنها حيلةٌ من أحسنِ الحِيَلِ‏

ترى بها كلَّ معلومٍ بصورتهِ *** على حقيقةِ ما هُوَ لا على البَدَلِ

حتى ترى المنظرَ الأعلى وليس لهُ *** سواكَ مَجْلَى فلا تبرحْ ولا تَزُلِ‏

فإن دعاكَ إلى عينٍ تُسَرُّ بها *** فلا تُجِبْهُ وكُنْ منه على وَجَلِ‏

إنّا إناث لِمَا فينا يُوَلِّدُهُ *** فلنحمدِ اللهَ ما في الكونِ من رَجُلِ

إنّ الرجالَ الذين العُرْفُ عَيَّنَهُمْ *** هم الإناثُ فَهُمْ نَفْسِي وهم أَمَلِي‏

فمن ذلك ‏وصية

(وصية عامة)

قال الله تعالى في الوصية العامة "شَرَعَ لَكُمْ من الدِّينِ ما وَصَّى به نُوحاً والَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وما وَصَّيْنا به إِبْراهِيمَ ومُوسى‏ وعِيسى‏ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ"، فأمر الحقُّ بإقامة الدين، وهو شرع الوقت في كل زمان وملّة، وأن يُجتَمع عليه ولا يُتَفَرَّق فيه،‏ فإن "يد الله مع الجماعة"، "وإنما يأكل الذئب القاصية"، وهي البعيدة التي شردت وانفردت عمّا هي الجماعة عليه.

وحكمة ذلك أن الله لا يُعْقَل إلهاً إلا من حيث أسمائه الحسنى، لا من حيث هو مُعَرّى عن هذه الأسماء الحسنى، فلا بد من توحيد عَيْنِه، وكثرة أسمائه، وبالمجموع هو الإله، فيد الله، وهي القوة، مع الجماعة.

أوصى حكيمٌ أولادَه عند موته، وكانوا جماعة، فقال لهم: ائتوني بِعِصِيٍّ. فجمعها، وقال لهم: "اكسروها"، وهي مجموعة، فلم يقدروا على ذلك، ثم فرّقها، فقال لهم: "خذوا واحدة واحدة فاكسروها"، فكسروها. فقال لهم: "هكذا أنتم بعدي، لن تُغلَبوا ما اجتمعتم، فإذا تفرّقتم تمكّن منكم عدوّكم فأبادكم". وكذلك القائمون بالدين، إذا اجتمعوا على إقامة الدين، ولم يتفرّقوا فيه، لم يقهرهم عدوّ. وكذلك الإنسان في نفسه، إذا اجتمع في نفسه على إقامة دين الله؛ لم يغلبه شيطان من الإنس، ولا من الجن، بما يوسوس به إليه، مع مساعدة الايمان والمَلَك بِلَمَّتِه له.


الفتوحات المكّية، الباب 560.

تم عمل هذا الموقع بواسطة