الدنيا أمٌّ رَقوب
يقول الشيخ الأكبر في باب "مقام المراقبة" في الفتوحات المكّية: واعلموا أن الله تعالى أطلعني في ليلة تقييدي هذا الباب على أمر لم يكن عندي، في واقعة وقعت لي برزخية قيل لي فيها: ألم تسمع أن الدنيا أمٌّ رقوب؟ قلت: نعم، قيل لي: فاجعل لها فصلًا في هذا الباب، فاستخرت الله على ذلك.
وصل: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن للدنيا أبناء"، وإذا كان لها أبناء فهي أمٌّ لهؤلاء الأبناء، ومن عادة الأم أن ترقب أبناءها لأنها المربّية لهم ولها عليهم حنوّ الأمومة والحذر عليهم أن تؤثر فيهم ضرتها وهي الآخرة، فيميلون إليها فتحفظهم من مشاهدة خير الآخرة فتشتد مراقبتها لأحوالهم، ثم لتعلموا أن الدنيا هي الدار الأولى القريبة إلينا، نشأنا فيها وما رأينا سواها فهي المشهودة وهي الحفيظة علينا والرحيمة بنا، فيها عملنا الأعمال المقرِّبة إلى الله، وفيها ظهرت شرائع الله، وهي الدار الجامعة لجميع الأسماء الإلهية، فظهرت فيها آلاء الجِنان وآلام النار، ففيها العافية والمرض، وفيها السرور والحزن، وفيها السر والعلن، وما في الآخرة أمر إلا وفيها منه مَثَلٌ وهي الأمينة الطائعة لله، أودعها الله أمانات لعباده لتؤديها إليهم، وهذا هو الذي جعلها ترقب أحوال أبنائها ما يفعلون بتلك الأمانات التي أدتها إليهم، هل يعاملونها بما تستحق كل أمانة لما وضعت له؟ فمنها أمانة توافق غرض نفوس الأبناء فترقبهم هل يشكرون الله على ما أولاهم من ذلك على يديها. ومنها أمانات لا توافق أغراضهم فترقب أحوالهم هل يقبلونها بالرضى والتسليم لكونها هدية من الله؟ فيقولون في الأولى: الحمد لله المنعم المفضّل، ويقولون فيما لا يوافق الغرض: الحمد لله على كل حال، فيكونون من الحامدين في السرّاء والضرّاء، فتعطيهم الدنيا هذه الأمانات نقية طاهرة من الشوب، فبعض أمزجة الأبناء الذين هم كالبقعة للماء والأوعية لما يُجعل فيها فيؤثر مزاج تلك البقعة في الماء، فإنّ الماء كله طيب عذب في أصله وهو المطر، فإذا حصل في بقع الأرض وهي مختلفة البقاع في المزاج ظهر العذب في المزاج الحسن فأبقاه على أصله كما ورد طاهرًا لطيفًا، وزاده من مزاجه طيبًا وحلاوة زائدة على ما كان عليه وهو الماء النمير، وبقعة أخرى جعلته ملحًا أُجاجا، وبقعة أخرى جعلته قعامًا مرًا فأثر في الحال النقي هذه الأوعية.
والشرع إنما تعلق بأفعال الأبناء لا بالأم بل قال: "وبالوالدين إحسانًا" (سورة الإسراء: الآية 23) وبما قال "فلا تقل لهما أفٍّ ولا تنهمرهما وقل لهما قولًا كريمًا واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربِّ ارحمهما كما ربّياني صغيرًا" (سورة الإسراء: الآيتان 23، 24)، فما أوصى الله تعالى بهذه الأمور إلا لعلمه بأنه في الأبناء من يصدر منهم مثل هذه الأفعال، فأمرهم أن يراقبوا هذه الأحكام في أفعالهم حتى يأتوا منها ما أمرهم الله، والدنيا شفيقة عليهم حدبة كثيرة الحنو، خائفة أن تأخذهم الضرة الآخرة منها، فإن الدار في هذا الوقت هي الدنيا والحكم لها ولا ينبغي أن تعزل عنها، كما أن الدار الآخرة لا تتعرض لها الدار الدنيا إذا انتقل الناس إليها، فالدنيا أنصف من الآخرة في الحكم فإنها في دار سلطانها.
وإذا جاءت الآخرة وكان يومها لا تعترض الدنيا ولا تزاحم الآخرة فما أنصف أحد من الناس، قال قتادة: ما أنصف الدنيا أحد ذُمّت بإساءة المسيء فيها ولم تُحمد بإحسان المحسن فيها، فلو كانت بذاتها تعطي القبح والسوء ما تمكن أن يكون فيها نبيّ مرسل ولا عبد صالح، كيف والله قد وصفها بالطاعة فقال إن علوّها وسفلها "قالتا أَتَيْنا طائعين" (سورة فصلت: الآية 11)، وقال "أن الأرض يرثها عبادي الصالحون" (سورة الأنبياء: الآية 105)، والصالح لا يرث إلا المال الصالح الذي يجوز له التصرف فيه فإنه عبد صالح ولم يقل إن جميع العباد يرثها، فدل أن تركتها كان كسبًا صالحًا فورثه عباد الله الصالحون.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا قال أحدكم: لعن الله الدنيا، قالت الدنيا: لعن الله أعصانا لربه"، فهذا ابن عاق لها. كيف لعنها وصرح باسمها والدنيا من حنوّها على أبنائها لم تقدر أن تلعن ولدها فقالت: لعن الله أعصانا لربه وما قدرت أن تسميه باسمه فهذا حنو الأم وشفقتها على ولدها، فيا عجبًا فينا لم نفق عند ما أمرنا الله به من طاعته ولا وقفنا ولا وفّينا ما رأيناه من أخلاق هذه الأم وحنوها علينا ومحبتها. وقال النبي صلى الله عليه وسلم "نِعمت مَطِيّةُ المؤمن عليها يبلغ الخير وبها ينجو من الشر"، فوصفها بأن حذرها على أبنائها تذكرهم بالشرور وتهرب بهم منها وتزين لهم الخير وتشوقهم إليه، فهي تسافر بهم وتحملهم من موطن الشر إلى موطن الخير وذلك لشدة مراقبتها لما أنزل الله فيها من الأوامر الإلهية المسماة شرائع، فتحب أن يقوم بها أبناؤها ليسعدوا، فهذا صلى الله عليه وسلم قد وصفها بأحسن الصفات وجعلها محلًا للخيرات، فينبغي لأهل المراقبة أن يكون بدؤهم في الدخول لاكتساب هذه الصفة أن يرقبوا أحوال أمهم لأن الطفل لا يفتح عينيه إلا على أمه فلا يبصر غيرها فيحبها طبعًا ويميل إليها أكثر مما يميل إلى أبيه لأنه لا يعقل سوى من يربيه وبأفعالها ينبغي أن يقتدي.
فإن قلت: فلماذا تغار من الآخرة؟ قلنا: لما كان الحكم لها وهي من الطاعة بهذه المثابة وليس للآخرة هنا سلطان، والذي في الآخرة هو في الدنيا من اللذات والآلام فالداران متساويتان فيصعب عليها أن يكون أبناؤها ينسبون إلى الآخرة وما ولدتهم ولا تعبت في تربيتهم، وبعد هذا كله فإن الناس نسبوا ما كانوا عليه من أحوال الشرور التي عينها الشارع إلى الدنيا وهي أحوالهم ما هي أحوال الدنيا، لأن الشر هو فعل المكلّف من الدنيا، ونسبوا ما كانوا عليه من أحوال الخير ومرضاة الله التي عينها الشارع للآخرة وهي أحوالهم ما هي أحوال الآخرة، لأن الخير هو فعل المكلّف ما هو فعل الآخرة، فللدنيا أجر المصيبة التي أصيبت في أولادها ومن أولادها. فمن عرف الدنيا بهذه المثابة فقد عرفها، ولم يعرفها بهذه المثابة وجهلها مع كونه فيها مشاهدًا لأحوالها شرعًا وعقلًا فهو بالآخرة أجهل حيث ما ذاق لها طعمًا.
وهنا يطرأ غلط لأهل طريق الله في كشفهم إذ لو تيقنوا في هذه الدار وطولعوا بأحوال الآخرة فليست تلك الآخرة على الحقيقة، وإنما هي الدنيا أظهرها الله لهم في عالم البرزخ بعين الكشف أو النوم في صورة ما جهلوه منها في اليقظة، فإنهم غير عارفين منها ما ذكرناه فيقولون: رأينا الجنة والنار والقيامة، ويذكرون الرؤيا التي رأوها وأين الدار من الدار وأين الاتساع من الاتساع؟ فذلك الذي رأوه حال الدنيا التي خلقها الله عليها من الخير والطاعة والعدل في الحكومة والنصيحة والوعظ والتذكرة، فإنه معلوم أن القيامة ما هي الآن موجودة، فإذا رؤيت في الحياة الدنيا فما هي إلا قيامة الدنيا وجنة الدنيا ونار الدنيا، وأن الجنة والنار جاءتا خادمتين للدنيا، إذ قال صلى الله عليه وسلم بل رؤي في صلاة الكسوف يتقدم في قبلته ثم تأخر تأخرًا كثيرًا ومدّ يده حين تقدم فسئل عن ذلك فقال: "إني رأيت النار حين رأيتموني تأخرت مخافة أن يصيبني من لفحها، ورأيت الجنة حين تقدمت وحين مددت يدي لأقطف منها قطفًا ولو خرجت به إليكم لأكلتم منه ما بقيت"، وذكر أنه رأى النار في صاحبة الهرة وعمرو بن الحي الذي سيب السوائب وذلك كله في حال الصلاة في يقظته، وما قال رأيت الآخرة ولا جنة الآخرة ولا نارها بل قال في عرض هذا الحائط والحائط من الدار الدنيا، ولذا قال عليه السلام: "مَثُلَتْ لي الجنة في عرض الحائط" ولم يقل هي وقال: مثلت لي، كما قال في جبريل عليه السلام "فتمثّل لها بشرًا سويًّا" (سورة مريم: الآية 17)، أترى كان غير جبريل؟ لا والله إلا جبريل فما رآهما إلا في الدنيا في دارها وحياتها، وقال متمدحًا : "ولله ملك السماوات والأرض" (سورة المائدة: الآية 17)، وهما للدار الدنيا، وقد قررنا أنه كل ما في الآخرة هو في الدنيا، فالدنيا أكمل في النشأة، ولولا التكليف وعدم حصول كل الأغراض لم تزنها الآخرة.
فإن قلت: فما الزيادة التي تزيد بها الدنيا على الآخرة؟ قلنا: الآخرة دار تمييز، والدار الدنيا دار تمييز واختلاط، فأهل النار مميزون وأهل الجنة مميزون، فأهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، "يَعرفون كلًا بسيماهم" (سورة الأعراف: الآية 46)، والدار الدنيا فيها ما في الآخرة من التمييز لكن لا يعم، فإنه قد علمنا في الدنيا بإعلام الله أن الرسل والأنبياء ومن عينته الرسل بالبشرى أنه سعيد، يقول الله: "لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة" (سورة يونس: الآية 64)، فهذا عموم الدنيا، فما ينقلب أحد من أهل السعادة إلى الآخرة حتى يُبشّر في الدنيا ولو نفس واحد فيحصل المقصود، ومن عينته الرسل بالبشرى أنه شقي فقد تميز بالشقاء يقول سبحانه: "فبشرهم بعذاب أليم" (سورة آل عمران: الآية 21)، وسكت عن أكثر الناس فلم يعين منهم أحدًا، وظهرت صفات الأشقياء في الآخرة في هذه الدار على السعداء من الحزن والبلاء والبكاء والذلة والخشوع، وظهرت صفات السعداء في الآخرة في هذه الدار من الخير والنعمة والتفكه والوصول إلى نيل الأغراض ونفوذ الأوامر على الأشقياء من أهل النار، إذ هذه النشأة تعطي أن يكون لها حظ ونصيب من هذه الصفات، فمنهم من تجمع لها في الدار الواحدة، ومنهم من تكون له في الدارين، فيظهر المؤمن بصفة الكافر حتى يختم له بالإيمان، ويظهر الكافر بصفة المؤمن حتى يختم له بالكفر.
ثم إن الله قد شرك السعيد والشقي في إطلاق الإيمان والكفر، وهذان اللفظان معلومان، فأكثر الناس ما يطلق الإيمان إلا على المؤمن بالله، ولا الكافر إلا على الكافر بالله، والله يقول: "والذين آمنوا بالباطل"، فسماهم مؤمنين، "وكفروا بالله" (سورة العنكبوت: الآية 52)، فقد أعطت الدنيا ما أعطت الآخرة، وهذه الزيادة التي لا تكون في الآخرة، والتشريع لا يكون في الآخرة إلا في موطن واحد حين يدعون إلى السجود ليرجح بتلك السجدة ميزان أصحاب الأعراف والناس لا يشعرون. ولما أوردناه يقول أهل الله ـ ولا أزكي على الله أحدًا: أن جود الحق في الدنيا في الإنسان أكمل منه في الآخرة، وقد رأينا من ذهب إلى هذا وشافَهَنا به في مجالس وجعل دليله الخلافة، فالإنسان في الدنيا أكمل في الصفات الأسمائية منه في الآخرة بلا شك لأنه يظهر بالإنعام والانتقام، ولا يكون له ذلك في الآخرة فإنه لا إنعام له على أحد ولا انتقام وإن شفع فبإذن لمن أذن. وأما في الجنة والنار بعد ذبح الموت فلا، بل في القيامة يكون من ذلك طرف انتقام لحكمة ذكرناها في هذا الكتاب مثل قوله عليه السلام: "فسحقًا سحقًا"، فراقبوا الله هنا عباد الله مراقبة الدنيا أبناءها فهي الأم الرقوب وكونوا على أخلاق أمكم تسعدوا.