الوجود والعدم عند ابن العربي
مليحة مسلماني*
يفتتح الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي مؤلفه الضخم والشهير "الفتوحات المكية" بقوله في بداية خطبة الكتاب "الحمد للهِ الذي أَوْجَدَ الأشياءَ عن عَدَمٍ وعَدَمَهُ، وأوقفَ وجودها على توجّهِ كَلِمِهِ، لنتحقّق بذلك سرّ حُدوثها وقِدَمَها من قِدَمه.."[1]، وهي بلا شك إشارة افتتاحية تحيل إلى رؤيته الشاملة للخلق، والوجود والعدم. ثم يرد حديث الشيخ الأكبر حول الوجود والعدم مفرّقًا في الفتوحات المكّية، وذلك في المواضع التي يقتضي التفصيلُ في مواضيعها واكتمالُ الرؤية حولها التطرقَ لهاتين المسألتين أو التعمّق فيهما، وبذلك فإن الفتوحات المكية هي بلا شك مصدر رئيسي لفهم رؤية ابن العربي لمسألتيْ الوجود والعدم، بالإضافة إلى مختلف كتبه ورسائله.
الوجود والعدم نسب وإضافات لا صفات
بداية، يوضح ابن العربي في رسالته "إنشاء الدوائر" أن الوجود والعدم ليسا صفتين للموجود والمعدوم بل هما من النسب والإضافات إذ يقول: "فالوجود والعدم عبارتان عن إثبات عين الشيء أو نفيه، ثم إذا ثبت عين الشيء أو انتفى فقد يجوز عليه الاتصاف بالعدم والوجود معًا، وذلك بالنسبة والإضافة؛ فيكون زيد ــ الموجود في عينه ــ موجودًا في السوق معدومًا في الدار. فلو كان العدم والوجود من الأوصاف التي ترجع إلى الموجود كالسواد والبياض لاستحال وصفه بهما معًا.. وقد صحّ وصفه بالعدم والوجود في زمان واحد، هذا هو الوجود الإضافي، والعدم مع ثبوت العين، فإذا صحّ أنه ليس بصفة قائمة بموصوف محسوس ولا بموصوف معقول وحده دون إضافة، فيثبت أنه من باب الإضافات والنسب مطلقًا، مثل المشرق والمغرب واليمين والشمال والأمام والوراء، فلا يُخَصّ بهذا الوصف وجود دون وجود."[2].
إن كون الوجود والعدم من النسب والإضافات هو مسألة جوهرية، بل أساس معرفيّ ينطلق منه ابن العربي لتكوين رؤيته الشاملة للوجود والعدم. فلا يمكن الحديث عن وجود الشيء أو عدمه إلا بالنسبة إلى عالم أو مكان ما، بمعنى أن كون الشيء ــ وهو زيد في المثال السابق ــ غير موجود في البيت فهذا لا يعني أن زيد غير موجود مطلقًا فنحن نعلم بوجوده أي هو موجود من حيث العلم به، فهو وإن لم نره عيانًا في البيت إلا أنه موجود في مكان أو في عالم آخر، وفي ذات الوقت فإن كون زيد موجود بعينه وموجود في السوق فإن ذلك لا يعني أنه لا يصح إطلاق العدم على زيد، فهو غير موجود ــ معدوم ــ في البيت. ثم يطرح ابن العربي السؤال التالي ليجيب عليه وهو: "كيف يصح أن يكون الشيء معدومًا في عينه يتصف بالوجود في عالم ما أو بنسبة ما، فيكون موجودًا في عينه معدومًا بنسبة ما؟"، أي كيف يصح أن يكون الشيء موجودًا ومعدومًا في آن واحد، يقول ابن العربي: "لكل شيء في الوجود أربع مراتب.. وجود الشيء في عينه [أي ظاهر للعيان].. وجوده في العلم [أي معلوم].. وجود في الألفاظ [أي يُحكى به] .. والمرتبة الرابعة: وجوده في الرّقوم [أي مكتوبًا].."[3]. إذًا فوجود الشيء في العلم هو مرتبة وجودية وإن انتفى وجود الشيء في الظاهر أو المحسوس.
الأعيان الثابتة
يضرب ابن العربي المثال السابق ليقدم رؤيته حول أصل أو ماهية الموجودات في العالم قبل الخلق، أو الإنشاء، وحالها بعد الخلق وظهورها في هذا العالم؛ فالموجودات إنما هي بالأصل "أعيانٌ ثابتة" موجودة في "علم الله القديم"، أو في "الحضرة العلمية"[4]، والعين الثابتة كما يعرفها الجرجاني "هي حقيقة في الحضرة العلمية ليست بموجودة في الخارج بل معدومة ثابتة في علم الله تعالى"[5]. ويقول الجرجاني في موضع آخر من معجمه: "الأعيان الثابتة هي حقائق الممكنات في علم الحق تعالى، وهي صور حقائق الأسماء الإلهية في الحضرة العلمية لا تأخّر لها عن الحق إلا بالذات لا بالزمان، فهي أزلية وأبدية، والمعنى بالإضافة: التأخر بحسب الذات لا غير"[6]. وتوضح سعاد الحكيم هذا المصطلح فتقول: "عبارة عين ثابتة مركّبة من لفظين، يقصد ابن عربي بالعين: الحقيقة أو الذات أو الماهية. ويقصد بالثّبوت هنا: الوجود العقلي أو الذهني كوجود ماهية الإنسان أو ماهية المثلث في الذهن، في مقابل الوجود الذي يقصد به التحقق خارج الذهن في الزمان والمكان.. إذن، عندما يتكلم ابن عربي على "الأعيان الثابتة" إنما يقرر وجود عالم معقول توجد فيه حقائق الأشياء أو أعيانها المعقولة. إلى جانب العالم الخارجي المحسوس الذي توجد فيه أشخاص الموجودات."[7].
يقول ابن العربي: "فما من صورة موجودة إلا والعين الثابتة عينها والوجود كالثوب عليها.."[8]. فالعدم الثبوتي، الذي ورد في نص ابن العربي أعلاه حول زيد كمثال، هو حال ثبوت العين، أي وجودها في علم الله قبل الخلق أو الإنشاء أو الظهور في عالم الصور والأشكال، والثوب هو ظهور العين فهو "الوجود الإضافي" الذي ورد في النص ذاته: "وقد صحّ وصفه [زيد كمثال] بالعدم والوجود في زمان واحد، هذا هو الوجود الإضافي، والعدم مع ثبوت العين".
العدم الإمكاني والعدم المطلق
لا يرد مصطلح العدم في مؤلفات الشيخ الأكبر وحيدًا أو مجردًا دائمًا بلا إضافات، بل لتفصيل رؤيته له كشفَ لنا عن مصطلحات جمعتها سعاد الحكيم في مؤلفها "المعجم الصوفي"؛ فهناك مصطلح "العدم الإمكاني" أو "عدم الممكن"، ومرادفات "العدم الإمكاني" في المعنى عند ابن العربي مصطلحات "العدم في القِدَم"، و"الثُّبوت" و"العدم الثبوتي"، فالمعدوم عند ابن العربي كما تحدده سعاد الحكيم هو "عين ثابتة معدومة: ثابتة في وجودها في علم الله القديم، معدومة أي مسلوب عنها الوجود الخارجي في زمان ومكان. إذن المعدوم له وجود عقلي متميز في علم الله. والعدم الإمكاني هو الثبوت"[9]، والثبوت كما ذكرنا هو حال الأعيان الثابتة قبل الإيجاد، أي وجودها في علم الله وعدمها بالنسبة للوجود الإضافي، والمُمْكِن والمُمْكِنات هي الأعيان الثابتة القابلة لكلمة الحضرة "كُنْ"، أي قبولها للإيجاد، يقول ابن العربي: "الموجودات.. لها أعيان ثابتة في حال اتصافها بالعدم الذي هو للممكن لا للمُحال.."[10]؛ "والممكنات في حال عدمها مهيّأة لقبول الوجود"[11].
في المقابل هناك مصطلح "العدم المطلق" ويرادفه أيضًا في المعنى "عدم المُحال" الذي هو الباطل والشر المحض والظلمة؛ يقول ابن العربي: "والباطل هو العدم بلا شك، والوجود كلّه حق"[12]، ويقول: "فالوجود نور والعدم ظلمة، فالشر عدم، ونحن في الوجود، فنحن في الخير.."[13]، ويقول: "الوجود المطلق هو الخير المحض، كما أن العدم المطلق هو الشر المحض"[14]، ويقول أيضًا: "مسألة أن العدم هو الشر المحض: لم يعقل بعض الناس حقيقة هذا الكلام لغموضه وهو قول المحققين من العلماء.. وقد قال لنا بعض سفراء الحق في منازلة في الظلمة والنور: إن الخير في الوجود والشر في العدم في كلام طويل، علمنا إن الحق تعالى له إطلاق الوجود من غير تقييد وهو الخير المحض الذي لا شر فيه، فيقابله إطلاق العدم الذي هو الشرّ المحض الذي لا خير فيه، فهذا هو معنى قولهم إن العدم هو الشر المحض"[15]. ويذكر أن ابن العربي لا يُلْحِق دائمًا كلمةَ العدم في حديثه بإضافات من باب الإمكان، أو المطلق والمحض، بل يتركها وحيدة في كثير من المواضع غير أنه يُفهم من سياق النص الذي ترد فيه كلمة العدم وحيدة عن أيهما يتحدث، أي عن العدم المطلق والمحض أم عن العدم الإمكاني.
الحق موجود بذاته والخلق موجود بالله
يقول ابن العربي أن الحقّ ــ الله واجب الوجود بذاته ولنفسه، والممكن، أي الأعيان الثابتة القابلة للإيجاد، واجبٌ وجودها بالله فهي مفتقرة إليه لإيجادها وإظهارها إلى الوجود، ذلك أنه قد صحّ أن تُنسّب إلى العدم والوجود معًا. والفقر هو صفة المممكنات والموجودات وحُكْمها، فهي مفتقرة دائمًا إلى ما ليس لديها أو عندها: "ألا ترى الممكن في حال عدمه يفتقر إلى المرجّح [أي ترجيح وجوده]، فإذا وُجد افتقر أيضًا إلى استمرار الوجود له وحفظه عليه فلا يزال فقيرًا ذا فقر في حال وجوده وفي حال عدمه.."[16].
إن الأعيان الثابتة، أو الممكنات، لا تملك في حال ثبوتها القدرة على التكوّن والتكوين، ولهذا طلب الله منها التكوّن أي طلبه لها لا له لافتقارها إلى القدرة الذاتية على التكوّن: "واعلم أن كل طالب إنما يطلب ما ليس عنده، فإن الحاصل لا يُبتغى، والحق لا يطلب من الممكن إلا تكوينه، وتكوينه ليس عنده [أي ليس عند الممكن]، فإن الممكن في حال عدمه ليس بمُكوِّن، فالتكوين ليس بكائن في العين الثابتة الذي هو الشيء، فإذا أراده الحق قال له "كُنْ فَيَكُون" [النحل: 40]، فأراد الحق حصول التكوين في ذلك الشيء لأنه ليس الكون عند ذلك الشيء، فما أراد الكون لنفسه وإنما أراده للشيء الذي ليس عنده، فإنه تعالى موجود لنفسه فهو يريد الأشياء للأشياء لا لنفسه فإنها عنده، فإنه ما من شيء إلا عنده خزائنه، ولا تكون خزائن إلا بما يُختزن فيها، فالأشياء عنده مختزنة في حال ثبوتها، فإذا أراد تكوينها لها أنزلها من تلك الخزائن وأمرها أن تكون فتكتسي حلّة الوجود فيظهر عينها لعينها.."[17].
"كُنْ" حرف وجودي
"كُنْ" هي كلمة التكوين عند الشيخ الأكبر ويسميها أيضًا "كلمة الحضرة"، وغالبًا فإن المقصود هنا "حضرة الوجدان" من اسم الله الواجِد، إذ يرد في الفتوحات مصطلح "حضرة كُن" كمرادف لمصطلح "حضرة الوجدان"[18]، وعن "كُنْ" وجدت الموجودات وهي كلمات الله: "فكل موجود هو كلمة من كلمات الله، لأنه المظهر الخارجي لكلمة التكوين كُنْ"[19]. يقول ابن العربي: "وليست كلمات الله سوى أعيان الموجودات.."[20]، ويقول: "فالموجودات كلها كلمات الله التي لا تنفد، فإنها عن "كُن" وكن كلمة الله"[21]، ويقول: "فمن الله توجهات دائمة وكلمات لا تنفذ، وهو قوله "وما عِنْدَ الله باقٍ" [سورة النحل: 40]، فعند الله التوجه وهو قوله تعالى "إِذا أَرَدْناهُ" [سورة النحل: 40]، وكلمة الحضرة وهي قوله لكل شيء يريده "كُنْ"، بالمعنى الذي يليق بجلاله، وكُنْ حرف وجودي فلا يكون عنه إلا الوجود، ما يكون عنه عدم لأن العدم لا يكون لأن الكون وجود، وهذه التوجهات والكلمات في خزائن الجود[22] لكل شيء يقبل الوجود.."[23].
عدمُ العدمِ وجود
عودةً إلى ما بدأ به الشيخ الأكبر كتابه الفتوحات المكية، وهو قوله "الحمد لله الذي أوجد الأشياء عن عدم وعدمه"، فنقول أولًا: أن الموجودات لم تُخلق من عدم بل عن عدم، وثانيًا: هي موجودة عن العدم الإمكاني لا عن العدم المحض الذي هو الباطل والمُحال فهو غير موجود، يقول ابن العربي: ".. وهو قولنا في أول خطبة هذا الكتاب "الحمد لله الذي أوجد الأشياء عن عدم وعدمه"، وعدم العدم وجود، فهو نسبة كون الأشياء في هذه الخزائن، محفوظة موجودة لله ثابتة لأعيانها، غير موجودة لأنفسها، فبالنظر إلى أعيانها هي موجودة عن عدم، وبالنظر إلى كونها عند الله في هذه الخزائن هي موجودة عن عدم العدم وهو وجود، فإن شئت رجَّحْتَ جانب كونها في الخزائن فنقول أوجد الأشياء من وجودها في الخزائن إلى وجودها في أعيانها للنعيم بها أو غير ذلك، وإن شئت قلت أوجد الأشياء عن عدم بعد أن تقف على معنى ما ذكرت لك فقل ما شئت فهو المُوجِدُ لها على كل حال في الموطن الذي ظهرت فيه لأعيانها."[24].
خلاصة
يُستخلص مما سبق عرضه من رؤية ابن العربي للوجود والعدم أن الإنسان له إلى كل من الوجود والعدم وَجْه، فلا يمكن القول أن الإنسان وجد "مِنْ" عدم محض مطلقًا فهذا مُحال في كل ما يطرحة ابن العربي ويشير إليه بوضوح فهو موجود كعين ثابتة في الخزائن، أو في علم الله، فذلك العدم الثبوتي هو عدم إمكاني لا عدم محض، وفي ذات الوقت لا يستحيل أن يُنسب الإنسان إلى العدم، ولكنه منسوب إلى ذلك العدم الإمكاني لا المحض، فالعدم الإمكاني عند ابن العربي هو أشبه بحالة وجودية مغايرة للوجود في العالم الذي نحن عليه الآن، فهو الثبوت، أي الأعيان الثابتة المخزونة في علم الله. يقول ابن العربي "ما قال بأن العدم هو الشر إلا من جهل الأمر، إنما ذلك العدم الذي ما فيه عين ولا يجوز على المتصف به كون وليس إلا المُحال، فذلك العدم هو الشر المحض على كل حال، وأما العدم الذي يتضمن الأعيان فذلك عدم الإمكان، فهي أعيان تَشهد وتُشهد فهي الشاهد والمشهود في حال العدم والوجود.."[25].
إذًا فالإنسان قديم مُحْدَث وموجود معدوم: "أما قولنا قديم فلأنه موجود في العلم القديم مُتُصَوَّرٌ فيه أزلًا.. وأما قولنا مُحْدَث فإن شكله وعينه لم يكن ثم كان.."[26]، ويقول ابن العربي أيضًا: "فيُنسب إليها [الموجودات] القِدَم من حيث ثبوتها، وينسب إليها الحدوث من حيث وجودها وظهورها"[27].
العدم المحال ظلمة والعدم الإمكاني ظلّ لا ظلمة
أخيرًا نترك النص التالي لابن العربي لذوق القارئ إذ يتضمن خلاصة رؤية الشيخ الأكبر للوجود والعدم وللإنسان الذي له وجه إلى كلّ منهما: وجهٌ إلى الوجود المطلق الذي هو الخير المحض وهو النور، ووجه إلى العدم الإمكاني الذي هو ظلّ لا ظلمة، يقول ابن العربي: "اعلم أن التجلي الإلهي دائم لا حجاب عليه، ولكن لا يُعرف أنه هو، وذلك أن الله لما خلق العالم أسمعهُ كلامه في حال عدمه وهو قوله "كُنْ"، وكان مشهودًا له سبحانه ولم يكن الحق مشهودًا له، وكان على أعين الممكنات حجاب العدم لم يكن غيره، فلا تدرك الموجود وهي معدومة كالنور ينفر الظلمة، فإنه لا بقاء للظلمة مع وجود النور كذلك العدم والوجود، فلما أمرها بالتكوين لإمكانها واستعداد قبولها سارعت لترى ما ثَمَّ، لأن في قوتها الرؤية كما في قوتها السمع، من حيث الثبوت لا من حيث الوجود، فعندما وُجِد الممكن انصبغ بالنور فزال العدم، وفتح عينيه فرأى الوجود الخير المحض، فلم يعلم ما هو، ولا علم أنه الذي أمره بالتكوين، فأفاده التجلي علمًا بما رآه لا علمًا بأنه هو الذي أعطاه الوجود، فلما انصبغ بالنور التفت على اليسار فرأى العدم فتحقّقه، فإذا هو ينبعث منه كالظل المنبعث من الشخص إذا قابلة النور، فقال: ما هذا؟ فقال له النور من الجانب الأيمن: هذا هو أنت، فلو كنت أنتَ النور لما ظهر للظل عين، فأنا النور وأنا مذهبه، ونورك الذي أنت عليه إنما هو من حيث ما يواجهني من ذاتك، ذلك لتعلم أنك لستَ أنا، فأنا النور بلا ظلّ، وأنتَ النور الممتزج لإمكانك، فإن نُسِبْتَ إليّ قَبِلْتُكَ، وإن نُسِبْتَ إلى العدم قَبِلَك، فأنت بين الوجود والعدم، وأنت بين الخير والشر، فإن أعرضتَ عن ظلّك فقد أعرضتَ عن إمكانك، وإذا أعرضت عن إمكانك جهلتني ولم تعرفني فإنه لا دليل لك على أني إلهك وربك وموجدك إلا إمكانك، وهو شهودُكَ ظلّك، وإن أعرضت عن نورك بالكلية ولم تزل مشاهدًا ظلك لم تعلم أنه ظِلّ إمكانك وتخيلتَ أنه ظل المُحال، والمحال والواجب متقابلان من جميع الوجوه، فإن دعوتك لم تجبني ولم تسمعني فإنه يصمّك ذلك المشهود عن دعائي، فلا تنظر إليّ نظرًا يفنيك عن ظلك فتدّعى أنكَ أنا فتقع في الجهل، ولا تنظر إلى ظلك نظرًا يفنيك عني فإنه يورثك الصّمَم، فتجهل ما خلقتكَ له، فكن تارة وتارة، وما خلق الله لك عينين إلا لتشهدني بالواحدة وتشهد ظلك بالعين الأخرى، وقد قلت لك في معرض الامتنان "أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * ولِساناً وشَفَتَيْنِ * وهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ" [سورة البلد: 8 و9 و10]، أي بيّنا له الطريقين: طريق النور والظل، "إِمَّا شاكِراً وإِمَّا كَفُوراً" [سورة الإنسان: 3]، فإن العدم المحُال ظُلمة، وعدم الممكن ظلٌّ لا ظلمة، ولهذا في الظلّ راحة الوجود."[28].
* كاتبة فلسطينية
_________
[1] محيي الدين ابن عربي، الفتوحات المكية، ضبطه وصحّحه: أحمد شمس الدين، بيروت: دار الكتب العلمية، 1999، المجلد 1، ص 15.
[2] محيي الدين ابن عربي، انشاء الدوائر، اعتنى به: عاصم إبراهيم الكيالي، ص 140 – 141؛ للاطلاع على الرسالة كاملة على الرابط التالي:
http://www.sufi.ir/books/download/arabic/ibn-arabi/ensha-davaer.pdf
[3] المصدر السابق نفسه.
[4] الحضرة العلمية هي من حضرة الغيب المطلق وهي أحدى الحصرات الخمس الإلهية، ويعرّف الجرجاني حضرة الغيب المطلق فيقول: "وعالمها عالم الأعيان الثابتة في الحضرة العلمية، وفي مقابلها حضرة الشهادة المطلقة: وعالهما عالم المُلك."؛ انظر/ي: علي بن محمد السيد الشريف الجرجاني، معجم التعريفات، تحقيق ودراسة: محمد صدّيق المنشاوي، القاهرة: دار الفضيلة، 2004، ص 78.
[5] المصدر السابق، ص 134.
[6] المصدر السابق، ص 28.
[7] سعاد الحكيم، المعجم الصوفي: الحكمة في حدود الكلمة، ط 1، بيروت: دار دندرة للطباعة والنشر، 1981، ص 831.
[8] ابن عربي، الفتوحات، المجلد 5، ص 69.
[9] الحكيم، ص 782.
[10] ابن عربي، الفتوحات، المجلد 4، ص 355.
[11] المصدر السابق، المجلد 6، ص 228.
[12] المصدر السابق، المجلد 3، ص 62.
[13] المصدر السابق، المجلد 4، ص 171 – 172.
[14] المصدر السابق، المجلد 6، ص 379.
[15] المصدر السابق، المجلد 1، ص 78.
[16] المصدر السابق، المجلد 3، ص 397.
[17] المصدر السابق، المجلد 8، ص 13.
[18] انظر/ي: "حضرة الوجدان وهي حضرة كُن"، المصدر السابق، المجلد 8، ص 392.
[19] الحكيم، ص 976.
[20] محيي الدين ابن عربي، فصوص الحكم، والتعليقات عليه: أبو العلا العفيفي، الجزء الأول، بيروت: دار الكتاب العربي، ص 211.
[21] المصدر السابق، ص 142.
[22] خزائن الجود عند ابن العربي هي عبارة عن "العلم الإلهي الحاوي لأمثال كل ما وُجد في هذا العالم". الحكيم، مصدر سابق، ص 390.
[23] ابن عربي، الفتوحات، المجلد 3، ص 422.
[24] المصدر السابق نفسه.
[25] المصدر السابق، المجلد 8، ص 126 – 127.
[26] ابن عربي، انشاء الدوائر، ص 142.
[27] ابن عربي، فصوص الحكم، ص 211.
[28] ابن عربي، الفتوحات، المجلد 3، ص 456 – 457.