بسم الله الرحمن الرحيم
وصية
(الحذر من الطعن في الأنساب)
الشيخ الأكبر ابن العربي
ومن الوصايا: الحذر من الطعن في الأنساب، فلا تَحُل بين شخص وبين أبيه صاحب الفراش، فإن ذلك كفر بنصّ الشارع فيه.
وعليك بمراعاة الأوقات في الدعاء، مثل الدعاء عند الأذان، وعند الحرب، وعند افتتاح الصلاة، فإن المطلوب من الدعاء إنما هو الإجابة، فيما وقع السؤال فيه، من الله. وأسباب القبول كثيرة، وتنحصر في الزمان، والمكان، والحال، ونفس الكلمة التي تذكر الله بها من الذكر حين تدعوه في مسألته. فإنه إذا اقترن واحد من هذه الأربعة بالدعاء أُجيبَ الدعاء. وأقوى هذه الأربعة: الاسم، ثم الحال.
وعليك بمراعاة حقّ الله وحق الخلقّ إن توجّه لهم عليك حقّ، فإن الله يؤتيك أجرك مرتين، من حيث ما أدّيته من حقه، ومن حيث ما أدّيت من حقّ من تعيّن عليك له حقّ من خلق الله. وإن كانت لك جارية، فأدّبتها وأحسنت أدبها، فإن لك في ذلك أجراً عظيماً، ثم إن أعتقتها، فلك في العتق الأجر العظيم العام لذاتك، فإن تزوجت بها فلك أجر آخر أعظم من أنك لو تزوجت بغيرها. فإذا رأيت غازياً فأَعِنْه بطائفة من مالك، وكذلك المكاتب، وكذلك الناكح يريد بنكاحه عصمة دينه والعفاف، فإنك إذا فعلت ذلك وأعنتهم فإنك نائب الله في عونهم، فإن عون هؤلاء حقّ على الله بنص الخبر.
فمن أعانهم فقد أدّى عن الله ما أوجبه الله على نفسه لهم، فيكون الله يتولّى كرامتَه بنفسه. فما دام المجاهد في سبيل الله مجاهداً بما أعنته عليه، فإنك شريكه في الأجر، ولا ينقصه شيء. وكذلك إعانة الناكح، حتى إنه لو وُلِد له ولد، فكان صالحاً، فإن لك في ولده وفي عَقْبِه أجراً وافراً تجده يوم القيامة عند الله، وهو أعظم من المكاتب والمجاهد، فإن النكاح أفضل نوافل الخيرات، وأقربه نسبة إلى الفضل الإلهي في إيجاده العالَم، ويعظم الأجر بعظم النّسب.
واعلم أن الإنسان مجبول على الفاقة والحاجة، فهو مجبول على السؤال، فإن رزقك الله يقيناً فلا تسأل إلا الله تعالى في طلب نفعٍ يعود عليك، أو دفع ضررٍ نزل بك. فإذا سألك أحد بالله، لا بقرابة، ولا بشيء غير الله عزّ وجلّ، فأعطه مسألته بحيث لا يعلم بذلك أحد إلا هو خاصة، ولا بد لك في مثل هذه الأعطية أن يعرفها، فإنه ينجبر في نفسه ما انكسر منها عند سؤاله. فإذا لم يعلم أن سؤاله نفع؛ انكسر، فلا بد أن تجيبه إلى مسألته على علم منه. فإن علمت بحاله من غير سؤال منه، فمثل هذا تعمل، أن تعطيه مسألته بالحال من غير أن يعلم أنك أعطيته، فإنه يخجل بلا شك، ولا سيما إن كان من أهل المروءات والبيوت، وممن لم تتقدم له عادة بذلك. وفرّق بين الحالتين، فإن الفرق بينهما دقيق، فإن السائل الأول يخجل إذا لم يعلم أنك أعطيته، والثاني يخجل إذا علم أنك أعطيته، والمقصود رفع الخجل عن صاحب الفاقة.
وعليك بذكر الله بين الغافلين عن الله، بحيث لا يعلمون بك، فتلك خلوة العارف بربّه، وهو كالمصلي بين النائمين.
وإياك ومنع فضل الماء من ذي الحاجة إليه. واحذر من المنّ في العطاء، فإن المنّ في العطاء يؤذِن بجهل المعطي من وجوه؛ منها: رؤيته نفسه بأنه ربّ النعمة التي أعطى، والنعمة إنما هي لله خلقاً وإيجاداً. والثاني: نسيانه منّة الله عليه فيما أعطاه وملّكه مِن نعمه، وأحوجَ هذا الآخر لما في يده. والثالث: نسيانه أن الصدقة التي أعطاها إنما تقع بيدِ الرحمن، والآخرِ، ما يعود عليه من الخير في ذلك، فلنفسه أحسَنَ ولنفسه سعى. فكيف له بالمنّة على ذلك الآخر (إذ) أنه ما أوصل إليه إلا ما هو له، إذ لو كان رزقه ما أوصله إليه، فهو مؤدّ أمانة من حيث لا يشعر، فجهله بهذه الأمور كلها جعله يمتنّ بالعطاء على مَن أوصل إليه راحة، وأبطلَ عمله، فإن الله يقول "لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ والْأَذى"، وقال الله "يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ".
وإياك أن تتقدّم قوماً في الصلاة إماماً، وهم يكرهون تقدّمك عليهم في صلاة وفي غيرها. غير أن هنا دقيقة؛ وهي أن تنظر ما يكرهون منك، فإن كرهوا منك ما كره الشرع منك فهو ذاك، وإن كرهوا منك ما أحبّه الشرع منك فلا تبالِ بكراهتهم. فإنهم إذا كرهوا ما أحبّ الشرع فليسوا بمؤمنين، وإذا لم يكونوا مؤمنين فلا مراعاة لهم، ولتتقدّم شاءوا أم أبوا. فمن ذلك الصلاة؛ إذا كنت أَقْرَأَ القومِ فأنت أحقّ بالإمامة بهم، أو ذا سلطان، فإن الله قدّمك عليهم. ومع هذا فينبغي للناصح نفسَه أن لا يتصف بصفة يُكْرَه منها تقدمه في أمر ديني، ولْيَسْعَ في إزالة تلك الصفة عن نفسه ما استطاع. وحافظ على الصلاة لأول ميقاتها، ولا تؤخرها حتى يخرج وقتها.
وإياك أن تتعبّد حرّاً وتسترقّه بشبهة، ولا ترى أن لك فضلاً على أحد فإن الفضل لله "يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ العَظِيمِ". وتعبُّد الحرّ على نوعين: إمّا أن تأخذ من هو حرّ الأصل فتبيعه، وإما أن تعتق عبداً أو لا تمكّنه من نفسه، وتتصرّف فيه تصرّف السيد لعبده، وليس لك ذلك إلا بإذنه أو إجازته، فإني رأيت كثيراً من الناس من يعتق المملوك ولا يمكّنه من كتاب عتقه، ويستعبده مع حريته. والسيد إذا أعتق عبده ما له عليه حكم إلا الولاء، فإذا أعتقت عبداً فلا تستخدمه إلا كما تستخدم الحرّ، إما برضاه وإما بالإجازة، كالحرّ سواء، فإنه حرّ. ثبت عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم الوعيد الشديد فيمن تعبّد مُحرَّرَهُ، وفيمن اعتبد حراً، وفيمن باع حراً فأكل ثمنه. والذي أوصيك به إذا استأجرت أجيراً، واستوفيت منه، فأعطه حقّه ولا تؤخِّره.
* الفتوحات المكّية، الباب 560.