بسم الله الرحمن الرحيم
وصيّة
(حَسِّن الظنّ بربّك على كل حال)
الشيخ الأكبر ابن العربي
حَسِّن الظنّ بربّك على كل حال، ولا تسيء الظن به، فإنك لا تدري هل أنت على آخر أنفاسك في كل نفَس يخرج منك، فتموت فتلقى الله على حسن ظنٍّ به، لا على سوء ظن. فإنك لا تدري، لعلّ الله يقبضك في ذلك النفَس الخارج إليه. ودع عنك ما قال مَن قال بسوء الظن في حياتك، وحُسْنِ الظن بالله عند موتك، وهذا عند العلماء بالله مجهول، فإنهم مع الله بأنفاسهم. وفيه من الفائدة والعلم بالله أنك وفّيتَ في ذلك الحقّ حقّه، فإن من حق الله عليك الايمان بقوله "ونُنْشِئَكُمْ في ما لا تَعْلَمُونَ"، فلعل الله ينشئك في النفَس الذي تظن أنه يأتيك ناشئة الموت والانقلاب إليه، وأنت على سوء ظن بربك، فتلقاه على ذلك. وقد ثبت عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم فيما رواه عن ربه أنه عزّ وجلّ يقول "أنا عند ظنّ عبدي بي فليظنّ بي خيراً"، وما خصّ وقتاً من وقت.
واجعل ظنّك بالله علماً بأنه يعفو ويغفر ويتجاوز، وليكن داعيك الإلهي إلى هذا الظنّ قوله تعالى "يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا من رَحْمَةِ الله"، فنهاك، وما نهاك عنه يجب عليك الانتهاء عنه. ثم أخبر وخبره صدقٌ لا يدخله نسخ، فإنه لو دخله نسخ لكان كذباً، والكذب على الله محال، فقال "إِنَّ الله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً"، وما خص ذنباً من ذنب، وأكّدها بقوله "جَمِيعاً". ثم تمّم فقال "إِنَّهُ هُوَ"، فجاء بالضمير الذي يعود عليه "الْغَفُورُ الرَّحِيمُ"، من كونه سبقت رحمته غضبه. وكذلك قال "الَّذِينَ أَسْرَفُوا"، ولم يعيّن إسرافاً من إسراف، وجاء بالاسم الناقص الذي يعمّ كل مسرف. ثم إضافة العباد إليه، لأنهم عباده، كما قال الحقّ عن العبد الصالح عيسى عليه السلام أنه قال "إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ"، فأضافهم إليه تعالى، وكفى شرفاً شرف الإضافة إلى الله تعالى.
* الفتوحات المكّية، الباب 560.