بسم الله الرحمن الرحيم
وصيّة
(ثابر على إتيان جميع القُرَب)
الشيخ الأكبر ابن العربي
ثابر على إتيان جميع القُرَب جهد الاستطاعة في كل زمان وحال، بما يخاطبك به الحق بلسان ذلك الزمان ولسان ذلك الحال، فإنك، إن كنت مؤمناً، فلن تَخْلُص لك معصيةٌ أبداً من غير أن تخالطها طاعة، فإنك مؤمن بها أنها معصية. فإن أضفت إلى هذا التخليط استغفاراً أو توبة، فطاعة على طاعة، وقُربة إلى قُربة، فيقوى جزءُ الطاعة الذي خلط العمل السيّئ. والإيمان من أقوى القُرَب وأعظمها عند الله، فإنه الأساس الذي انبنى عليه جميع القُرَب.
ومن الايمان حُكْمك على الله بما حكم به على نفسه في الخبر الذي صحّ عنه تعالى، الذي ذكر فيه "وإن تقرّبَ مني شبراً تقرّبتُ منه ذراعاً، وإن تقرّب إليّ ذراعاً تقرّبتُ منه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة"، وسبب هذا التضعيف من الله، والأقل من العبد والأضعف، فإن العبد لا بد له أن يتثبّت من أجل النية بالقربة إلى الله في الفعل، وأنه مأمور بأن يزن أفعاله بميزان الشرع، فلا بدّ من التثبّط فيه. وإن أسرع، ووُصف بالسرعة، فإنما سرعته في إقامة الميزان في فعله ذلك، لا في نفس الفعل، فإن إقامة الميزان به تصحّ المعاملة، وقربُ الله لا يحتاج إلى ميزان، فإن ميزان الحق الموضوع الذي بيده، هو الميزان الذي وَزَنْتَ أنت به ذلك الفعل الذي تطلب به القربة إلى الله؛ فلا بد مًنْ هذا نعته أن يكون في قربه منك أقوى وأكثر من قربك منه. فوصف نفسه بأنه يقرُبُ منك في قربك منه ضعفَ ما قرُبتَ منه، مِثلاً بمثل، لأنك على الصورة خُلِقت.
وأقلّ خلافة لك خلافتك على ذاتك، فأنت خليفته في أرض بدنك ورعيّتك جوارحك وقواك الظاهرة والباطنة، فعيْنُ قُرْبِه منك، قربك منه وزيادة، وهي ما قال من الذراع والباع والهرولة؛ والشبر إلى الشبر ذراع، والذراع إلى الذراع باع، والمشي إذا ضاعفته هرولة. فهو في الأول الذي هو قربك منه، وهو في الآخر الذي هو قربه منك، فهُوَ الْأَوَّلُ والْآخِرُ، وهذا هو القرب المناسب، فإن القرب الإلهيّ من جميع الخلق غير هذا، وهو قوله "ونَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ من حَبْلِ الْوَرِيدِ"، فما أُريدُ هنا ذلك القرب، وإنما أُريد القرب الذي هو جزاء قرب العبد من الله، وليس للعبد قرب من الله إلا بالإيمان بما جاء من عند الله، بعد الايمان بالله، وبالمُبلّغ عن الله.
*الفتوحات المكّية، الباب 560.