بسم الله الرحمن الرحيم
وصية
(ثابِر على كلمة الإسلام)
الشيخ الأكبر ابن العربي
ثابِر على كلمة الإسلام، وهي قولك "لا إله إلا الله"، فإنها أفضل الأذكار بما تحوي عليه من زيادة علم. وقال صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم "أفضل ما قلته أنا والنبيّون من قبلي: لا إله إلا الله"، فهي كلمة جمعت بين النفي والإثبات، والقسمة منحصرة، فلا يعرف ما يحوي عليه هذه الكلمة إلا من عرف وزنها وما تزن، كما ورد في الخبر الذي نذكره في الدلالة عليها. فاعلم أنها كلمة توحيد، والتوحيد لا يماثله شيء، إذ لو ماثله شيء ما كان واحداً، أو لكان اثنين فصاعداً، فما ثَمَّ ما يزنه، فإنه ما يزنه إلا المعادِل والمماثِل، وما ثَمَّ مماثِل ولا معادِل. فذلك هو المانع الذي منع "لا إله إلا الله" أن تدخل الميزان، فإن العامة من العلماء يرون أن الشرك، الذي هو يقابل التوحيد، لا يصح وجود القول به من العبد مع وجود التوحيد، فالإنسان إما مشرك وإما موحّد، فلا يزن التوحيد إلا الشرك، فلا يجتمعان في ميزان.
وعندنا إنما لم يدخل في الميزان لما ورد في الخبر لمن فهمه واعتبره، وهو خبر صحيح عن الله، يقول الله "لو أن السموات السبع وعامِرُهنّ غيري، والأرضين السبع وعامِرُهنّ غيري، في كفّة، ولا إله إلا الله في كفّة مالت بهنّ لا إله إلا الله"، فما ذكر إلا السموات والأرض لأن الميزان ليس له موضع إلا ما تحت مقعر فلك الكواكب الثابتة من السدرة المنتهى، التي تنتهي إليها أعمال العباد، ولهذه الأعمال وُضِع الميزان، فلا يتعدّى الميزان الموضع الذي لا تتعدّاه الأعمال. ثم قال "وعامِرُهنّ غيري"، وما لها عامر إلا الله، فالخبير تكفيه الإشارة.
وفي لسان العموم من علماء الرسوم يعني بالغير: الشريك الذي أثبته المشرك، لو كان له اشتراك في الخلق لكانت "لا إله إلا الله" تميل به في الميزان، لأن "لا إله إلا الله" الأقوى على كل حال، لكون المشرك يرجّح جانبَ الله تعالى على جانب الذي أشرك به، فقال فيهم إنهم قالوا "ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى الله زُلْفى"، فإذا رفع ميزان الوجود، لا ميزان التوحيد، دخلت "لا إله إلا الله" فيه، وقد تدخل في ميزان توحيد العظمة، وهو توحيد المشركين، فتزنه "لا إله إلا الله" وتميل به. فإنه إذا لم يكن العامر غير الله، فلا تميل، وعينه ما ذكره إنما هو الله، فإلى أين تميل، وما ثَمَّ إلا واحد في الكفّتيْن؟
وأما صاحب السجلّات، فما مالت الكفّة إلا بالبطاقة، لأنها هي التي حواها الميزان، من كون لا "إله إلا الله" يلفظ بها قائلها فكتبها المَلَك، فهي "لا إله إلا الله" المكتوبة المخلوقة في النطق، ولو وُضِعَت لكل أحد، ما دخل النار من تلفّظ بتوحيد. وإنما أراد الله أن يُري فضلَها أهلَ الموقف في صاحب السجلّات، ولا يراها ولا توضع إلا بعد دخول من شاء الله من الموحّدين النار. فإذا لم يبق في الموقف موحّد قد قضى الله عليه أن يدخل النار، ثم بعد ذلك يخرج بالشفاعة، أو بالعناية الإلهية، عند ذلك يؤتى بصاحب السجلّات، ولم يبق في الموقف إلا من يدخل الجنة ممّن لا حظّ له في النار، وهو آخر مَن يوزن له من الخلق، فإن "لا إله إلا الله" له البدء والختام، وقد يكون عين بدئها ختامها، كصاحب السجلّات.
ثم اعلم أن الله ما وضع في العموم إلا أفضل الأشياء، وأعمّها منفعة وأثقلها وزناً، لأنه يماثل بها أضداداً كثيرة، فلا بد أن يكون في ذلك الموضوع في العامة من القوة ما يقابل به كل ضد، وهذا لا يتفطّن له كل عارف من أهل الله إلا الأنبياء الذين شرعوا للناس ما شرعوا، ولا شك أنه قال صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم "أفضل ما قلته أنا والنبيّون من قبلي لا إله إلا الله"، وقد قال ما أشارت إلى فضله من ادّعى الخصوص من الذكر بكلمة "الله الله"، و"هُوْ هُوْ"، ولا شك أنه من جملة الأقوال التي "لا إله إلا الله" أفضل منها عند العلماء بالله.
فعليك يا وليّ بالذكر الثابت في العموم، فإنه الذكر الأقوى، وله النور الأضوا، والمكانة الزُّلفى، ولا يشعر بذلك إلا من لزمه وعمل به حتى حَكَمه. فإن الله ما وسّع رحمته إلا للشمول وبلوغ المأمول، وما من أحد إلا وهو يطلب النجاة وإن جَهِل طريقَها، فمن نفى بـ"لا إله" عيْنَه أثبت بـ"إلا الله" كَوْنَه، فتنفى عينَك حُكماً لا عِلْماً، وتوجب كونَ الحق حُكْماً وعِلْماً. والإله من له جميع الأسماء، وليست إلا لعين واحدة، وهي مسمّى "الله" عامر السموات والأرض، الذي بيده ميزان الرفع والخفض. فعليك بلزوم هذا الذكر الذي قرَن اللهُ به، وبالعلم به، السعادة، فَعَمّ.
* الفتوحات المكّية، الباب 560.