بسم الله الرحمن الرحيم
وصية
(عليك بالأذان لكل صلاة)
الشيخ الأكبر ابن العربي
وعليك بالأذان لكل صلاة، أو تقول ما يقول المؤذن إذا أذّن، وإذا أذّنت فارفع صوتك، فإن المؤذّن يشهد له يوم يوم القيامة مدى صوته من رطب ويابس، ولو علم الإنسان ما له في الأذان ما تركه؛ قال صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستَهِموا عليه لاستهموا، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوَاً". فإن لم يؤذّن، وسمع الأذان، فليقل مثل ما يقول المؤذن سواء، وإن قال ذلك عند كل كلمة، إذا فرغ المؤذّن منها، قالها هذا السامع بحضور وخشوع.
ولقد أذّنت يوماً، فكلما ذكرت كلمة من الأذان كشف الله عن بصري، فرأيت ما لها مَدّ البصر من الخير، فعاينتُ خيراً عظيماً لو رآه الناس العقلاء لذهلوا لكل كلمة، وقيل لي: "هذا الذي رأيت ثواب الأذان". وإنما ارتضينا ووصّينا أن يقول السامع مثل ما يقول المؤذن عند فراغ كل كلمة لِمَا رويناه من حديث الترمذي، عن ابن وكيع، عن إسماعيل بن محمد بن حجادة يبلغ به النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم قال: "من قال لا إله إلا الله والله أكبر، صدّقه ربه وقال: لا إله إلا أنا وأنا أكبر، وإذا قال: لا إله إلا الله وحده، يقول الله: لا إله إلا أنا وأنا وحدي، وإذا قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قال الله: لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي، وإذا قال: لا إله إلا الله له المُلك وله الحمد، قال الله: لا إله إلا أنا لي المُلك ولي الحمد، وإذا قال: لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، قال الله: لا إله إلا أنا ولا حول ولا قوة إلا بي"، قال: وكان يقول "من قالها في مرضه لم تطعمه النار".
ويكفي العاقل في الأمر بالأذان أمرُ النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم "مَن سمع المؤذن يؤذّن أن يقول مثل قوله، فهو أذان"، فما رغّبه فيه إلا وله أجره، فإنه مُعْلِم لذلك نفسَه، وذاكرٌ ربَّه بصورة الأذان، فما أمره إلا بما له فيه خير كثير. وليؤذّن على أكمل الروايات وأكثرها ذكراً، فإن الأجر يكثر بكثرة الذكر. قال تعالى "والذَّاكِرِينَ الله كَثِيراً والذَّاكِراتِ"، وقال "اذْكُرُوا الله ذِكْراً كَثِيراً". وقد ورد أن الإنسان إذا كان بأرض فلاة، فدخل الوقت وليس معه أحد، قام فاذّن، فإذا أذّن صلّى خلفه من الملائكة كأمثال الجبال، ومن كانت جماعته مثل أولئك يؤمّنون على دعائه، كيف يشقى؟! وإنما وصّينا بمثل هذا لغفلة الناس عن مثله.
فالعاقل من لا يغفل عن فعل ما له فيه الخير الباقي عند الله عزّ وجلّ، فإن ذلك من رحمتك بنفسك، فإن الله جعل رحمتك بنفسك أعظم من رحمتك بغيرك، كما جعل أذاك نفسك أعظم في الوزر من أذاك غيرك، قال (صلّى الله عليه وسلّم) في قاتل الغير إذا لم يُقتل به "أمره إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء أخذه"، وقال في القاتل نفسه "حُرِّمت عليه الجنة"، وقال صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم "الراحمون يرحمهم الرحمن". فمن رحم نفسه يسلك بها سبيل هداها، ويحول بينها وبين هواها، فرحمه الله رحمة خاصة خارجة عن الحدّ والمقدار، فإنه رَحِمَ أقرب جار إليه، وهي نفسه، ورحم صورة خلقها الله على صورته، فجمع بين الحسنيين: مراعاة قرب الجوار، ومراعاة الصورة.
وأي جار سوى نفسِه، فهو أبعد منها، ولذلك أمر الداعي إذا دعا أن يبدأ بنفسه أولاً، مراعاة لحقها. والسرّ الآخر أن الداعي لغيره يحصل في نفسه افتقار غيره إليه، ويذهل عن افتقاره، فربما يدخله زهو وعجب بنفسه لذاك، وهو داء عظيم، فأمره رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم أن يبدأ لنفسه بالدعاء، فتحصل له صفة الافتقار في حقّ نفسه، فتزيل عنه صفةُ الافتقار صفةَ العُجْبِ والمنّة على الغير، وفي أثر ذلك يدعو للغير على افتقار وطهارة. فلهذا ينبغي للعبد أن يبدأ بنفسه في الدعاء، ثم يدعو لغيره، فإنه أقرب إلى الإجابة، لأنه أخلص في الاضطرار والعبودية، ومثل هذا النظر مغفول عنه. لا أحد أعظم من الوالدين، وأكبر بعد الرسل حقاً منهما على المؤمن، ومع هذا أمر الداعي أن يقدم في الدعاء نفسه على والديه، فقال نوح عليه السلام "رَبِّ اغْفِرْ لِي ولِوالِدَيَّ ولِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً ولِلْمُؤْمِنِينَ والْمُؤْمِناتِ"، وقال الخليل إبراهيم عليه السلام في دعائه "واجْنُبْنِي وبَنِيَّ"، فقدّم نفسه، "رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ ومن ذُرِّيَّتِي"، "رَبَّنَا اغْفِرْ لِي ولِوالِدَيَّ ولِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ"، فبدأ بنفسه، وقال "أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى الله فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ".
وإنما أوصيتك بالأذان لما فيه عند الله يوم القيامة؛ فإن المؤذّنين أطول الناس أعناقاً في ذلك اليوم، يقول: تمتدّ أعناقهم دون الناس، لينظروا ما أثابهم الله به، وما أعطاهم من الجزاء على أذانهم، هذا إن كان من الطول. فإن كان من الطول، الذي هو الفضل، والعُنُقُ الجماعةُ، فهم أفضل الناس جماعة، ومن رواه بكسر الهمزة فهو أفضلهم سيراً، لما يرونه من الخير الذي لهم على الأذان، فإن المؤذّن يحافظ على الأوقات، فهو يسرع إلى الإعلام بدخول وقت الصلاة، فإنه مُراعٍ ذلك.
* الفتوحات المكّية، الباب 560.