1 قراءة دقيقة
عليك بالصدقة

بسم الله الرحمن الرحيم 

وصية

(عليك بالصدقة)

الشيخ الأكبر ابن العربي

وعليك بالصدقة، فإن الله قد ذكر الْمُتَصَدِّقِينَ والْمُتَصَدِّقاتِ، وهي فرضٌ ونفلٌ؛ فالفرض منها يسمّى زكاة، والنفل منها يسمّى تطوّعاً. وبالفرض منها يزول عنك اسم البخل، وبصدقة التطوّع منها تنال الدرجات العُلى، وتتصف بصفة الكرم والجود والإيثار والسخاء. وإيّاك والبخل. ثم إنه عليك في مالك حقٌّ زائدٌ على الزكاة المفروضة، وهو إذا رأيت أخاك المؤمن على حالة الهلاك، بحيث أنك إذا لم تعطه من فضلِ مالك شيئاً هلكَ هو وعائلته، إن كانت له عائلة، فيتعيّن عليك أن تواسيه إما بالهبة أو بالقرض، فلا بدّ من العطاء، وذلك العطاء صدقة. حتى أني سمعت بعض علمائنا بإشبيلية يقول في حديث "هل عليَّ غيرها" يعني في الزكاة المفروضة، قال (صلّى الله عليه وسلّم) "لا إلا أن تطوَع"، قال لي ذلك الفقيه: "فيجب عليك"، فاستحسنتُ ذلك منه رحمه الله.

وإنما سمّى اللهُ الإنسانَ متصدّقاً، وسمّى ذلك العطاءَ صدقة، فرضاً كان أو نفلاً، لأنه أعطى ذلك عن شدّة، لكونه مجبولاً على البخل، فإن الله يقول فيه "وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً"، فقال صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم في فضل الصدقة وزمانها "أن تصدّق وأنت صحيح شحيح، تخاف الفقر وتأمَل الحياة والغنى". يقول الله تعالى "وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" أي الناجون، لأن الإنسان إذا كان له مال ويأمل الحياة، فإنه يخاف أن يفتقِر ويذهب ما بيده من المال بطول حياته لنوائبِ الزمان وأملِه بطول حياته، فيؤديه ذلك إلى البخل‏ بما عنده من المال، والإمساك عن الصدقة والتوْسِعة على المحتاجين ممّا أتاه الله من الخير. فهو يكنزه ولا ينفقه ولا يؤدي زكاته، حتى يُكوى به جنبُه وجبينُه وظهرُه، كما قال تعالى فيهم "يَوْمَ يُحْمى‏ عَلَيْها في نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى‏ بِها جِباهُهُمْ وجُنُوبُهُمْ وظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ". فلهذا العطاء عن شدّة سمّيت صدقة، يقال "رُمْحٌ صَدْقٌ" أي صُلْبٌ.

وقد ضرب رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم مثلاً في البخيل والمتصدّق،‏ فقال صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم "مَثَلُ البخيل والمتصدّق كمثل رجليْن عليهما جُبّتان من حديد قد اضطرت أيديهما إلى تراقيهما، فجعل المتصدّق كلما تصدّق بصدقة انبسطت عليه حتى تُجِنَّ ثيابه وتعفو أثره، وجعل البخيل كلما همَّ بصدقةٍ قلصت، وأخذت كل حلقة مكانها".

فإيّاك والبخل فإنه يرديك، ويوردك المواردَ المُهْلِكة في الدنيا والآخرة. ولا يجعلك تتكرّم وتتصدّق إلا استعمالُ العلم، فإنك إذا علمتَ أن رزقك لا يأكله ولا يقتات به ولا يحيى به غيرك، ولو اجتمع أهل السموات والأرض على أن يحولوا بينك وبين رزقك ما أطاقوا، وإذا علمت أن رزق غيرك فيما أنت مالكه لا بدّ أن يصل إليه حتى يتغذّى به ويحيا، وأن أهل السموات والأرض لو اجتمعوا على أن يحولوا بينه وبين رزقه الذي هو في ملكك ما أطاقوا، فادفع إليه ماله إذا خطر لك خاطر الصدقة؛ تتصف بالكرم والثناء الجميل، وأنت ما أعطيته إلا ما هو له بحقّ، في نفس الأمر عند الله، وأنت محمود؛ فإذا علمت هذا هان عليك إخراج ما بيدك، ولحقتَ بأهل الكرم، وكُتبتَ في المتصدّقين؛ إن أخرجت ذلك عن تردّد ومكابدة، وأتبعتَه نفسَك، ورأيت بذلك أن لك فضلاً على من أوصلتَه تلك الراحة، فإيّاك إن تجهل على أحد، كما تحبّ أن لا يُجهل عليك. وقد كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم يقول في تعوّذاته "وأعوذ بك أن أجهل أو يُجهل علي"، فَمَن حَكَمَ فيك بالعلم فقد أنصفك‏.


* الفتوحات المكّية، الباب 560.

تم عمل هذا الموقع بواسطة