1 قراءة دقيقة
عليك بالورع

بسم الله الرحمن الرحيم 

وصية

(عليك بالورع)

الشيخ الأكبر ابن العربي

وعليك بالورع في المنطق كما تتورّع في المأكل والمشرب، والورع عبارة عن اجتناب الحرام والشبهات. وأما الشبهة فما حاك في صدرك؛‏ ثبت عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم أنه قال "الإثم ما حاك في صدرك‏". قال بعض العلماء من أهل الله "ما رأيت أسهل عليّ من الورع، كل ما حاك له في نفسي شي‏ء تركته". وقد ورد في الخبر"دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"،‏ وورد أيضاً "استفتِ قلبَك وإن أفتاك المفتون‏"، يعني بالحل. وتجد أنت في نفسك وقفة في ذلك، فاجتنبه، فهو أولى بك، ولا تحرّمه.

وعليك بالهَدْي الصالح، وهو هدى الأنبياء، وهو اتباع آثارهم الذي أُمِرَ رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم باتباعهم في قوله (تعالى) "أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى الله فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ"، وكذلك السمتُ الصالح، والاقتصاد في أمورك كلها؛ فإن النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم قد ثبت عنه "أن الهَدْيَ الصالح والسمتَ الصالح والاقتصادَ جزء من خمسة وعشرين جزءاً من النبوة".

وتحفّظ من العجلة، إلا في المواطن التي أمرك رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم بالعجلة فيها والمسارعة إليها، مثل الصلاة لأول ميقاتها، وإكرام الضيف، وتجهيز الميت، والبكر إذا أدركت، بل وكل عمل للآخرة، فالمسارعة إليه أَوْلى من التؤدة فيه. واجعل التسويف والتؤدة في أمور الدنيا، فإنه ما فاتك من الدنيا ما تندم عليه، بل تفرح بفوته، وما فاتك من أمور الآخرة فإنك تندم عليه. وقد ثبت عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم أنه قال "التؤدة في كل شي‏ء إلا في عمل الآخرة". وقد ذكر مسلم أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم قال للأشجّ؛ أشجّ عبد القيس "إن فيك لخصلتين يحبهما الله ورسوله، قال: وما هما يا رسول الله؟ قال الحلم والأناة"، أراد الحلم عمّن جنى عليك، والأناة في أمور الدنيا وأغراض النفس.

وإن كان لك عائلة فكُدّ عليهم، فإن "الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله". وكن خير الرعاة في كل ما استرعاك الله فيه على الإطلاق، فـ "السلطان راعٍ، وكل راعٍ مسئول عن رعيته"؛ ما فعل فيهم: هل اتقى الله فيهم؟ أو لم يتقّ؟ "والرجل راعٍ على أهل بيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولده، والعبد راعٍ على مال سيّده".

ولا تغفل عن الصلاة على رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم إذا ذَكَرْتَه أو ذُكِرَ عندك؛ تأمن من البخل، فإنه‏ ثبت عنه صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم أنه قال "البخيل من ذُكِرت عنده فلم يصلّ عليّ"، ولو لم يكن في ذلك إلا إطلاق البخل عليك، وهو من أذمّ الصفات وأرداها. ومعنى البخيل هنا: بخله على نفسه، فإنه‏ قد ثبت فيمن صلى على النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم مرّة صلى الله عليه عشراً. فمن ترك الصلاة على النبي صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم فقد بخل على نفسه، حيث حَرَمها صلاة الله عليه عشراً، إذا صلى هو واحدة فما زاد.


* الفتوحات المكّية، الباب 560.

تم عمل هذا الموقع بواسطة