بسم الله الرحمن الرحيم
نشأة الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي
(محمد بن عليّ)
وُلد الشيخ الأكبر محمد ابن العربي الحاتمي الطائي في مدينة مرسية شرقي الأندلس سنة 560 للهجرة (1165 للميلاد)، وكان ذلك في عهد الخليفة العباسي المستنجد بالله، وكانت دولة المرابطين في الأندلس تلفظ أنفاسها الأخيرة لتحلّ محلّها دولة الموحّدين. كان أبو محمد يتبوأ منصباً رفيعاً عند ابن مردنيش سلطان مرسية، وعندما مات هذا السلطان وأخذ الموحدون إمارته، رحل محمد مع أبيه وعائلته إلى إشبيلية عاصمة الأندلس آنذاك، وكان عمره عندئذ ثمانية سنين. وهناك في إشبيلية وفي قرطبة تلقّى محمد التعليم والتربية على أيدي مشاهير شيوخ الأندلس، وكانت تتهيأ له مكانة رفيعة في قصر السلطان مثل أبيه لولا أنه اتجه إلى طريق الزهد والتصوف. كان ذلك قبل أن يكمل العقد الثاني من عمره، وسرعان ما فُتح عليه بعلوم جمّة أدّت إلى شهرته التي عمّت بلاد الأندلس والمغرب حتى صار الشيوخ يقصدونه من كل حدب وصوب.
وقد قضى الشيخ الأكبر السنوات الأخيرة من هذه الفترة حتى سنة 589 في السفر بين مدن الأندلس قاصدا شيوخ الطريق حتى يتعلم على أيديهم ويستفيد منهم ويفيدهم على حد سواء، وهو لم يبلغ بعدُ الخامسة والعشرين من العمر.
بزوغ شمس محي الدين
لقد كان يوماً صيفياً جميلاً ذلك اليوم الذي وُلد فيه محمد. لم يكن المخاض حالة أمه فقط؛ لأن ولادته كانت حالة استثنائية في التاريخ بأسره، وكأن الدنيا وُلدت حبلى به. انتقل محمد في أصلاب الرجال أرباب الكرم من أرض النبوّات في جزيرة العرب إلى الأندلس، جنة الله على الأرض. في ربوع تلك البلدة الجميلة على ضفاف نهر شقورة وفي يوم رحمة من أواسط شهر رمضان المبارك، وُلد محمد بن علي ابن العربي بن محمد الحاتمي الطائي، في ليلة يوم الاثنين السابع عشر من شهر رمضان المبارك سنة 560 للهجرة، الموافق 26 تموز (يوليو) سنة 1165 للميلاد، حيث كان القمر قد بدأ يخلع عمامته البيضاء، وكانت شمس الصيف مقبلة على السهول والجبال تمنح نورها ودفأها للشجر والدواب والبشر والحجر، ولد هذا الطائي في مرسية شرقي الأندلس سليل أسرة عريقة معروفة بالعلم والتقوى والجود والسخاء والكرم؛ فجدّه الأعلى عبد الله الحاتمي، أحد قادة الفتوحات الإسلامية وهو أخو عديّ ابن حاتمٍ الطائي، الصحابي الجليل الذي خاض حروب الردة وأوائل الفتوحات الإسلامية، وكان أبوه علي ابن العربي ذا منصب ومكانة كبيرة عند السلطان ابن مردنيش في مرسية وبعده عند سلاطين الموحدين في إشبيلية.
لقد بدأت إذاً رحلة ابن العربي من المشرق، وانتهى شوطها الأول، بالاسم الباطن، في مُرسية، على ضفاف نهر شقورة، في جنوب شرقي الأندلس. هناك رأى محمد الضوء، وهناك أشرقت عليه أول شمس، وتنشّق أول نسيم. على الرغم من أنه لم يعِش فيها سوى بضع سنوات من عمر طفولته، إلا أنّ مرسية لا شكّ كانت دائما تعيش في ذاكرته، حتى إن شمسيهما غابتا معاً، حين استولى عليها الإسبان سنة 636/1239، قبل وفاته بقليل، وكانت يومئذ في يد أميرها أحمد بن محمود بن هود.
عائلة ابن العربي في مرسية
تماشياً مع الفتوحات الإسلامية هاجر الكثير من العرب إلى المغرب العربي والأندلس، ولا شكّ أن بني طيء أجداد ابن العربي كانوا من بين هؤلاء الناس وربما من بين الجنود الذين فتحوا الأندلس؛ حتى إن الكثير من الأوس والخزرج من سكّان المدينة المنوَّرة هاجروا كلّيّاً إلى الأندلس واستقرّوا هناك، ولم يعُد لهم وجود يُذكر في المدينة.
ويَذكر المؤرخ حسين مؤنس في كتابه "فجر الأندلس" وفود طوالع العرب الأولى إلى الأندلس حينما أقبل "الحرّ بن يوسف الثقفي" إليها في ذي الحجة سنة 97/716 بعد فتحها بخمس سنوات، واصطحب معه أربعمائة رجل فأقاموا في قرطبة وما حولها. ثم أقبلت القبائل العربية إلى الأندلس، فسكن في مرسية ربيعة جذام ودوس وغافق، وملكان وأفصي بن مضر، وجميعهم من اليمن، فلا شكّ أن عائلة ابن العربي كانت منهم، ومن أجل ذلك يفخر الشيخ محي الدين بنسبه اليمني..
كان أبو محمد [والد الشيخ محي الدين، واسمه عليّ] يتقلّد منصباً مهمّاً عند الأمير ابن مردنيش، ثم بقي في خدمة سلطان الموحدين أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن، واستمر كذلك حتى عصر أمير المؤمنين الثالث أبي يوسف يعقوب المنصور. ونحن لا نعرف بالتحديد ما هو هذا المنصب الذي كان يتولاّه أبو محمد، ولكن على الرغم من حسن سيرة ملوك الموحدين مقارنة مع المرابطين وملوك الطوائف، إلا أنه ربما كان عليٌّ العربي يُلام لتولّيه مثل هذا المنصب والعمل في بلاط الملوك، الذين ربما لم يكونوا محبوبين من قِبل الزهّاد الذين كان محمد ابن العربي يرافقهم؛ فكانوا كثيراً ما ينصحونه بترك منصبه والتفرّغ لنفسه..
في هذا الوسط المحب للعلم والعلماء نشأ محمد وترعرع، ومن صباه كان مرهف الحس والذوق، قوي العاطفة، غلاّب الوجدان، رحب الآفاق في الهمة والتطلع، فانطلقت روحه تبتغي أفقاً أعظم وأشمل من ألوان العلوم والمعارف التي ألِفها عامة العلماء في وقته على علوّ قدرهم.
فترة طفولته وصباه
لا نعرف الكثير عن الفترة الأولى من حياة محمد، إلا أنها لا شك كانت غنية بالمغامرات والرحلات الترفيهية، خاصة لكونه من عائلة غنيّة مقرّبة من الملوك. وهناك إشارات واضحة على أن الطفل محمداً كان هادئ الطبع خفيف الظل متوقّداً، ذكيّ الفؤاد طيب النفس أنيساً، حلو الشمائل لطيف الروح بسيطاً، يكاد يمازج الأرواح لرقّته وتشربه النفوس لعذوبته، ولقد بدت بوادر النبوغ على وجهه منذ نعومة أظافره. مضت سنيّ طفولته بسرعة بارقة وكأنما كان الكمال يدفعه إلى العلا على عجل، وتطلبه الحقائق الأُوّل. غير أنه لم ينس حظه من اللهو والمرح لا سيما وقد كان أهله من الأغنياء وعنده الخدم والحشم، مع أن لهوه ومرحه كان لا يخلو من الدروس والعبر، كيف لا وهو الذي سيكون صاحب الوقت، يحكم على الوقت ويجري مع الأنفاس في مراقبة الله تعالى وتسبيحه وذكره!
كما أنه منذ صغره كان له ميول نحو أهل الله مع أنه هو نفسه لم يكن بعد يعرف طريق التصوف، ولكنه كان يدافع عن الصوفية الفقراء الذين كانوا كثيراً ما يتعرّضون للاضطهاد بسبب عدم قبول الفقهاء لهم والإنكار عليهم عند السلاطين، فكان محمد يعطف عليهم ويُؤويهم، وكان ذلك على الحقيقة سبب فتحه، فقد قال في "روح القدس": "ولم أزل أبداً والحمد لله أجاهد الفقهاءَ في حقِّ الفقراءِ السادة حقَّ الجهاد وأذبُّ عنهم وأحمي، وبهذا فُتح لي!".
انتقالهم إلى إشبيلية
عندما بلغ محمد الثامنة من عمره ضاقت به مرسية كما لن تسعه الأندلس بعد حين، فانتقل مع عائلته في عام 568/1172 إلى إشبيلية في جنوب غرب البلاد، وهي مدينة لا تختلف كثيراً عن مسقط رأسه، فهي أيضاً كثيرة البساتين والمنتزهات ذات طبيعةٍ خلاّبةٍ وجوٍّ جميل، ولكنها كانت مدينة كبيرة متعددة الأعراق والأديان يتنافس فيها الفلاسفة والعلماء والمفكرون، كما أنها كانت لا تخلو من النشاطات الفنية والعمرانية المتعددة.
لقد حصل هذا التحوّل بعد موت ابن مردنيش.. حيث انتهت المقاومة ضد دولة الموحدين في شرقي الأندلس، وسيطر السلطان أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن على مرسية وبلنسية، وذهب أبناءُ ابن مردنيش إلى إشبيلية لإعلان ولائهم كما أوصاهم أبوهم وأخذوا معهم بعض القادة والأمراء، ولا بدّ أن أبا محمد علي العربي كان معهم حيث انتقلوا إلى عاصمة دولة الموحدين إشبيلية. وهناك بقي أبو محمد مقرباً من الأمير وكان يشغل أيضاً منصباً في بلاطه.
في تلك المدينة المنبسلة تلقّى محمد تعليمه على أيدي مشاهير العلماء والأدباء في ذلك الوقت، وفيها أيضاً قضى سنيّ شبابه. وفي إشبيلية بدأت شهرته تملأ الآفاق حيث كان يطلب جميع العلماء المعروفين ويدخل معهم في نقاشات واسعة معلّماً أو متعلّماً. وكثيراً ما كان مشاهير العلماء والفلاسفة يقصدونه ويطلبونه للتعلّم منه والتعرّف عليه كما حصل في لقائه الشهير مع الفيلسوف الشيخ ابن رشد..
كان السلطان أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن (558/1163-580/1184) عالماً فقيهاً يحبُّ الفلسفة وعلوم الدين ويُجلُّ العلماء ويقدّرهم، حيث وفّر لهم الجوّ المناسب وكان يجالسهم ويحضر نقاشاتهم مثل ابن طفيل وابن رشد وابن زهر وغيرهم، واستمر هذا الوضع في فترة حكم ابنه المنصور يعقوب بن يوسف (580/1184-595/1199). وعلى الرغم من اجتناب الشيخ ابن العربي للسلطان وحاشيته، ولكن لا شك أن السلطان كان يحبّه ويجلّه وقد عرض عليه منصباً وأن يزوّج أختيه لبعض الأمراء الموحدين.. وكذلك كان محمد الناصر بن يعقوب المنصور (595/1199-611/1215) يتفاخر به وبشهرته بعد أن رحل إلى مكة لكونه نشأ في الأندلس..
الأمان والصدق: قصته مع حمر الوحش
بعد انتقالهم إلى إشبيلية خرج محمد ذات يوم في رحلة صيد مع والده وغلمانه في منطقة بين قرمونة وبلمة بالقرب من إشبيلية، وإذا بقطيع من حمر الوحش ترعى، وكان مولعاً بصيدها. كان يسير مع حصانه وحده بعيداً عن الغلمان؛ ففكّر في نفسه وجعل في قلبه أنه لا يريد أن يؤذي واحداً منها بصيد. ولمّا رآها حصانه هشّ إليها ولكنه مسكه عنها وهو يحمل رمحه بيده. ثم وصل إلى القطيع ودخل بينهم وربما مرّ سنان الرمح بأسنمة بعضها وهي ترعى؛ فما رفعت رأسها ولا خافت منه أبداً حتى اجتازها! ثم لمّا أعقبه الغلمان فرّت الحمر أمامهم من الخوف.
ولم يعلم محمد وقتها تفسير ما حدث من مثل هذا التصرف الغريب الغير مألوف من قِبل حمر الوحش هذه، غير أنه أدرك في وقت لاحق أن الأمان الذي كان في نفسه تِجاههم سرى في نفوسهم فما عادوا يخافون منه. فأدرك أنه من أراد أن لا يخاف من أحد فلا يُخف أحداً، وإذا أمِن منك كلُّ شيء تأمن أنت من كل شيء، وأدرك أهمية الصدق وأثره حتى على الحيوان. كما أنه سيدرك لاحقاً أنه ليس الإنسان فقط هو الذي يتّصف بالعلم والمعرفة بل جميع الحيوانات وحتى الجماد؛ كيف لا وكل شيء يسبّح بحمد الله، ولا يسبّح إلا من هو عالم بمن يسبّح!
مرضه وإنقاذه بسورة يس
بقدر ما يكون المرء موهوباً ومباركاً وموفّقاً، بقدر ما تكثر أعداؤه ويزيد منافسوه الذين لا بدّ أن يحاولوا الإيقاع به ومحاصرته وتثبيطه عن الوصول إلى أهدافه النبيلة، فإما أن يغلبوه ويردوه على أعقابه، وإما أن ينصره الله عليهم ويوفقه ويتمّ نعمته عليه، فيخرجه من كل محنةٍ منتصراً وتزيده كل بليّةٍ قوةً وتصميماً، مع أنه يجب دائماً اجتناب النزاعات وعدم الالتفات إليها لأنها إن لم تثنِ المرء عن أهدافه فسوف تؤخره.
فأما أعداء العالم الدنيوي فيسهل تجنّبهم واستيعابهم، وذلك بترك ما يتقاتلون عليه والزهد به فلا يكون هناك سبب للمنازعة. وهذا هو بالتحديد ما يجب فعله على كلّ من يريد دخول طريق التصوّف، وهذا ما فعله ابن العربي حين ترك المناصب وابتعد عن السلاطين، وترك حبّ الشهرة للفقهاء الذين كثيراً ما كانوا يداهنون من أجل الحصول على قبول الحكّام والوزراء لهم.
ولكن ثمة أعداء آخرون يتربصون بالمرء من كل جهة وهم لا يريدون منافسته في مال ولا جاه، بل ربما يُغروه بهذه الأشياء ليثنوه عما هو في سبيله. وهؤلاء هم الشياطين والأرواح الشريرة، ونحن لا يمكننا أن ننكر وجودهم، رغم أن ذلك شيء لم يدخل بعد تحت سيطرة العلم الحديث ودراسته، ولكن الدين يفرض علينا الإيمان بذلك مع أننا نؤمن أنه في النهاية لا يضرّ ولا ينفع إلا الله سبحانه وتعالى. ولولا وجود مثل هذه الأرواح الشريرة ما أُمرنا بالحرز والاستعاذة وقراءة القرآن الكريم، وخاصة بعض الآيات أو السور التي تتعلق بطرد هذه الأرواح والقضاء عليهم، مثل المعوذات وآية الكرسي وسورة يس.
يروي ابن العربي أنه كان مرة مريضاً جداً، حتى أن من حوله اعتقدوا أنه يصارع الموت أو أنه قد مات، حيث كان غائباً عن الوعي وكان يهلوس لشدة الحمّى. فيقول إنه كان يرى أشخاصاً مرعبين قبيحيّ المنظر يحاولون أن يؤذوه، ولكن فجأةً ظهر له شخص قويٌّ ولطيفٌ وكان يستنشق الطيب من نَفَسه، وصار هذا الشخصُ يدافع عنه حتى غلبهم جميعاً. فقال له محمد: من أنت؟ قال: أنا سورة يس، أنا حارسك. ثم ما لبث أن استعاد محمد وعيه وعافيته وإذا بأبيه يقف قربه وهو يبكي وكان قد انتهى لتوّه من قراءة سورة يس.
وبذلك فإن الله سبحانه وتعالى قد سخّر له أباه لإنقاذه من الموت بقراءة هذه السورة المباركة وهي قلب القرآن، فكانت هي حارسه من هذه الأرواح الشريرة التي كانت تحاول القضاء عليه.
* من كتاب "شمس المغرب: سيرة الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي ومذهبه"، لمؤلِّفه: محمد علي حاج يوسف، سورية، حلب: فصّلت للدراسات والترجمة والنشر، 2006.
لتحميل الكتاب: https://drive.google.com/drive/folders/0B_5U4cCy-A_lMG9BN0JJTUxxTU0