1 قراءة دقيقة
دخول ابن العربي الطريق

بسم الله الرحمن الرحيم

دخول ابن العربي الطريق

(580/ 1184)*

لقد كان ينتظر محمداً مستقبلٌ مشرقٌ في بلاط السلطان مثله مثل أبيه عليّ العربي، حيث وُعد بمنصب كاتبٍ في الديوان كما ذكر ابن العبّار في "التكملة". ولكن محمداً لم يكن يتجه بهذا الاتجاه، وكأن مستقبلاً آخراً، أكثر إشراقاً وأكثر سعادةً في الدنيا وفي الآخرة، كان يُرسم له من حيث لا يدري، وهو التصوُّف والزهد والتفرُّغ لعبادة الله سبحانه وتعالى.

إنّ ميول محمّد كانت منذ فترة طفولته تتّجه نحو أهل الله من الفقراء والعبّاد، وكان يدافع عنهم ويؤويهم.. ولكن، على الرغم من ميوله المبكّر إلى طريق التصوّف، لا نعرف على وجه التحديد متى دخل الشيخ محي الدين فعليّاً في هذا الطريق ولا كيفيّة ذلك. وعلى الرغم مما توحيه بعض القصص حوله، وحتّى بعض أقواله في "الفتوحات المكية" وغيرها، فإن ابن العربي لم يتحوّل إلى التصوف بشكل مفاجئ، عن طريق ما يُعرف بالجَذْبة، بعد فراره من حفلة مجون كان يُقدَّم فيها الخمر، كما يقول بعض الرواة. فحتى لو كانت هذه القصة صحيحة، فهذا لا يعارض أن الشيخ كان كثيراً ما تراوده الرغبة في الزهد والعزلة مع نفسه، ولكنه ربّما تردد قليلاً قبل أن يُقدِم على مثل هذه الخطوة الجريئة.

ومثل هذا التردّد أمرٌ طبيعيٌّ، لأن الإنسان لا يستطيع أن يفارق تعلّقه بالدنيا وملذّاته، خاصة وإن كان قد أوتي منها الكثير، فيذكر الإمام أبو حامد الغزالي مثلاً أنه بقي سنوات طوالاً يتردّد في دخول طريق الله ويعتزل الناس والجاه والمال، إلى أن أقدم على ذلك. صحيح أن الشيخ محي الدين يقول إن فتحه كان نتيجة جذبة كما سنرى بعد قليل، ولكن ذلك كما قلنا لا يعني أنه قد دخل طريق التصوّف بهذا الشكل، بل من المرجّح أنّه كان يتهيّأ إلى ذلك منذ طفولته.

على كلّ حال نحن نعرف من خلال النصوص التي تركها لنا الشيخ محي الدين أن دخوله طريق التصوّف قد حصل قبل أن يتمّ العقد الثاني من عمره، أي قبل سنة 580/1184، كما ذكر هو نفسه في "الفتوحات المكية" في أثناء حديثه عن بعض المقامات التي ينالها المُقرّبون، فقال: "ونلت هذه المقامات في دخولي هذه الطريقة سنة ثمانين وخمسمائة في مدّة يسيرة." وقد حصل ذلك أيضاً بعد وفاة عمّه عبد الله.. والذي دخل طريق التصوف وكان عمره ثمانين سنة، ثم مات في الثالثة والثمانين من العمر قبل أن يدخل محمد التصوف. ولكن هذا لا يعني بالضرورة أنه دخل الطريق في هذه السنة وإنما قد يكون قبل ذلك بقليل. ورغم أنه نال هذه المقامات بسرعة، فهذا لا يعني كما قلنا أن دخول ابن العربي الطريق كان نتيجة جذبة، ولكنه وصل للفتح بنتيجة هذه الجَذْبة..

وقد ذكرت الباحثة كلوديا عدّاس أنه ربما يكون دخول الشيخ محي الدين في الطريق قبل سنة 580/1184 بكثير، لا سيما وأنه يذكر أن لقاءه الشهير بابن رشد.. قد تمّ في مرحلة من عمره كان "ما يزال صبيّاً ما بَقُل وجهُه ولا طرَّ شاربُه"، وهذا قد يوحي أن ذلك حصل قبل سنة 580/1184 بعدّة سنوات. ولكنّ هذا التحليل لا يبدو مقنعاً رغم ما فيه من بعض الدلائل القويّة، وذلك لأنّنا لا نجد نشاطاً فعليّاً للشيخ محي الدين ابن العربي إلا في سنة 586/1191، وهو يقول.. أنه لمّا دعاه الله تعالى إليه أجابه مدّة ثم حصلت عنده فترة، وهي الفترة المعلومة في الطريق عند أهل الله التي لا بدّ منها. فإذا كان قد نال المقامات التي ذكرناها أعلاه سنة 580/1184 كما قال هو عن نفسه، فلا يبدو أن ذلك حصل بعد الفترة، لأن الفترة تبدو أنها حصلت بين سنة 580 وسنة 585، حيث لا يوجد له نشاطٌ يُذكر فيها رغم أنه قد أصبح شابّاً، فلو كانت الفترة قبل سنة 580 لوجدنا على الأقل بعض الأحداث المهمة بعد ذلك وقبل سنة 585.

وسوف نجد أيضاً في الفصل الرابع من [الكتاب]  دليلاً قويّاً آخراً يؤكّد أنّ دخول الشيخ محي الدين في طريق التصوّف لا يمكن أن يكون قبل سنة 580، لأنّه يقول إنه بقي نحواً من ثمان وثلاثين سنة عازفاً عن النساء والزواج، إلى أن أتاه الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم الذي يذكر فيه أن الله حبّب إليه من الدنيا ثلاث ومنها النساء، وكان ذلك في مكة سنة 598/1201، بعد أن تعرّف على الشيخ أبي شجاع الأصفهاني إمام الحرم الإبراهيمي وعلى ابنته نظام، التي كتب لها "ترجمان الأشواق"، وربّما تزوّجها أو خطبها..

فقد كان إذاً محمّد يميل إلى التصوّف منذ صغره، فعندما حان الوقت وشاء الله تعالى قضاء ما قد قدّره، اعتزل ابن العربي في إحدى المقابر خارج البلد، وهناك وبدون طول مقدمات أتاه الفتح من الله تعالى بشكل مفاجئ، من غير جهاد أو رياضة ولا سلوك طريق طويل، كما هو الأمر عادة مع أغلب الصوفية. لقد ذكر لاحقاً بعض تلاميذه مثل هذه الرواية.. والشيخ محي الدين نفسه قد ذكر مثلاً في "الفتوحات المكية" بوضوح أن فتحه قد تقدّم على رياضته، مع أنه التزم بعد ذلك مع بعض شيوخ الصوفية، ولو أنه لم تكن على الحقيقة علاقتُه بهم كما هي عادةً علاقة أيّ مريد بشيخه المرشد، والتي عادة ما تكون علاقة تعليم واتّباع من المريد للمرشد حتى يأخذ بيده إلى أن يفتح الله عليه. ولكن بما أن الشيخ محي الدين كان على الحقيقة مُراداً قبل أن يكون مريداً، ولذلك تمّ فتحه بوقتٍ قصيرٍ جداً وبلغ مراتب الشيوخ رغم صغر سنه، فلذلك كانت علاقته بشيوخه علاقة انتفاع متبادل فتعلّم منهم وعلّمهم، مثل الشيخ أبي يعقوب يوسف الكومي الذي يقول عنه: "وما راضني أحدٌ من مشايخي سواه، فانتفعت به في الرياضة، وانتفع بنا في مواجيده. فكان لي تلميذاً وأستاذاً وكنت له مثل ذلك. وكان الناس يتعجبون من ذلك ولا يعرف واحدٌ منهم سبب ذلك، وذلك سنة ست وثمانين وخمسمائة. فإنه كان قد تقدّم فتحي على رياضتي، وهو مقام خطر، فأفاء الله عليّ بتحصيل الرياضة على يد هذا الشيخ جزاه الله عني كل خير."..

الدوافع

وفي كل الأحوال فمن الصعب أيضاً تحديد ما حصل بالتحديد لابن العربي مما أدى به إلى الدخول في طريق التصوف، وذلك لأن ابن العربي نفسه لم يتكلم عن هذه المسألة بشكل صريح ومباشر، رغم أنه عادة ما يذكر ما يحصل له من الأمور المهمة بقدر جيّد من التفصيل. ولكن هناك رواية يذكرها القاري البغدادي في كتابه "مناقب ابن العربي" الذي خصصه لتوضيح سيرته والدفاع عن مذهبه وأقواله، غير أنه، أي البغدادي، ربما لم يكن دقيقاً بما فيه الكفاية، لدرجة أنه لا يمكن الوثوق بكل ما يذكره، مع أنه كان يحاول عن حسن نيّة إقناع المعارضين لابن العربي بأيّ ثمن. من أجل ذلك يجب أن نأخذ القصة التالية التي يرويها بحذر شديد، خاصّة وأنّها تبدو محبوكة بشكل جيّد وفقا لما يُروى عن أحوال الكثير من أعلام التصوّف كابن الأدهم وغيره، ولكن بما أنها هي المصدر الوحيد حتى الآن فلا بأس من ذكرها.

فيذكر البغدادي أنه في إحدى المناسبات دُعي والدُ ابن العربي إلى حفلة عند أحد أصدقاءه مع الأمراء والوزراء وأبنائهم وكان ابن العربي معهم. فبعد أن أكلوا حتى التخمة وجاء دور الشراب فصُبّ الخمر ودارت الكؤوس، فلما جاء الدور إلى محمد وملئ له الكأس فمسكه ليشرب ولكنه سمع صوتاً يناديه: "يا محمد، أنت لم تُخلق لهذا!" فرمى الكأس من يده وخرج من الدار وخرج إلى خارج المدينة، وهناك التقى براعي غنم فاستصحبه معه واستبدل بثيابه لباس الراعي، وخرج إلى إحدى المقابر، فوجد قبراً قد خرب وصار مغارة، فدخل فيه وصار يذكر الله تعالى ولا يخرج إلا وقت الصلاة. فقال ابن العربي، كما يروي البغدادي، إنه بقي في تلك المقبرة أربعة أيام ثم خرج بكل هذا العلم الذي سطّر بعضه لاحقا في كتبه.

وفي رواية أخرى لإسماعيل ابن سودكين النوري (توفي 646/1248)، وهو تلميذ ابن العربي المقرّب والذي رافقه في كثير من رحلاته في المشرق، يذكر في كتاب "الوسائل" أن ابن العربي قال إنه دخل الخلوة قبل الفجر وتلقّى الفتح قبل طلوع الشمس، ولكن يضيف أنه بقي في هذه الخلوة أربعة عشر شهراً، وأنه حصّل خلال هذه الفترة جميع العلوم التي تكلم بها. ويقول أيضاً أنّ فتحه كان نتيجة جذبة في تلك اللحظة.

وعلى كلّ حال فكل هذه القصص، وإن صحّت، ليست بالضرورة دليلاً على زمن دخول الشيخ محي الدين ابن العربي في طريق التصوّف ولا توضّح الدوافع الحقيقية لذلك؛ وإنّما يبدو من كل ما ذكرناه أعلاه أن الشيخ محي الدين كان منذ صغره له مثل هذا الميول ولم يحصل الأمر عنده فجأة أبداً عن طريق الجذبة..

[معنى الفتح، والجَذْبة]

الفتح

يُقصد بالفتح العلوم والمعارف الذوقية التي تنكشف للعبد السالك في طريق الله تعالى، وذلك بخلاف العلوم التي تأتي عن طريق التفكّر أو الخبر وهو ما يسمّى العقل والنقل. وبذلك فإن الفتح هو بمثابة فتح عين البصيرة بحيث يبدأ العبد إدراك العالم الروحاني الباطن ببصيرته كما يدرك الناسُ العالم الظاهر ببصرهم.

يقول الشيخ الأكبر في الباب السادس عشر ومائتين من الفتوحات المكية "في معرفة الفتوح وأسراره" أن الفتوح على ثلاثة أنواع: الأول فتوح العبارة في الظاهر وسببه إخلاص القصد، والثاني هو فتوح الحلاوة في الباطن وهو سبب جذب الحق بأعطافه، وأما النوع الثالث فهو فتوح المكاشفة بالحق وهو سبب المعرفة بالحق. والأمر الجامع لذلك كله أن كل أمر جاءك من غير تعمّل ولا استشراف ولا طلب فهو فتوح ظاهراً كان أو باطناً، وله علامة في الذائقِ الفتوح وهي عدم الأخذ من فتوح الغير أو نتائج الفكر؛ ومن شرط الفتوح أن لا يصحبه فكر ولا يكون نتيجة فكر. كان الشيخ أبو مدين يقول في الفتوح: "أطعمونا لحماً طرياً لا تطعمونا القديد" أي لا تنقلوا إلينا من الفتوح إلا ما يُفتح به عليكم في قلوبكم لا تنقلوا إلينا فتوح غيركم.".

ثم قال الشيخ الأكبر في نفس الباب إن الفتح الإلهي على نوعين: فتح عن قرع، وفتح ابتداءً لا عن قرع، وهو المطلوب عند القوم؛ أي أن الفتح الذي لا يكون نتيجةً متوقعة لعمل هو الفتح الصحيح، مع أن العمل بطبيعته يطلب الفتح ولكن يجب على العبد أن لا ينتظر الفتح جزاءً على عمله وإلا فقد يكون ذلك الفتح استدراجاً.

الجَذْبة

والجذبة أو الجذب مصطلح صوفي يُقصد به "ملاحظة العناية الإلهية للعبد باجتذابه إلى حضرة القرب"، وذلك بأن يهيّئ الله له كلّ ما يحتاجه في طريقه لاجتياز المنازل والمقامات دون كلفة ولا مشقّة، بعكس المريد السالك الذي يقطع الطريق بالمجاهدة والرياضة. ويقول شيوخ التصوف: إن صاحب الجذبة يرى في بدايته ما يكون له في نهايته، وإن جذبةً من جذبات الحق تُربي على أعمال الثقلين.

فالمراد إذاً: مجذوبٌ عن إرادته، وهذه الحالة خطيرة جدّاً بين الصوفية. يقول الشيخ محي الدين في رسالة الأنوار: "فإن الإنسان إذا تقدم فتحُه قبل رياضته فلن يجيء منه رجلٌ أبداً إلا في حكم النادر"، وهكذا كان ابن العربي من هذه النوادر.


* من كتاب "شمس المغرب: سيرة الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي ومذهبه"، لمؤلِّفه: محمد علي حاج يوسف، سورية، حلب: فصّلت للدراسات والترجمة والنشر، 2006.

لتحميل الكتاب: https://drive.google.com/drive/folders/0B_5U4cCy-A_lMG9BN0JJTUxxTU0


تم عمل هذا الموقع بواسطة