1 قراءة دقيقة
ألزِم نفسك الحديث بعمل الخير

بسم الله الرحمن الرحيم

وصية

(ألزِم نفسك الحديث بعمل الخير)

الشيخ الأكبر ابن العربي

ألزِم نفسك الحديث بعمل الخير وإن لم تفعل، ومهما حدّثت نفسك بشرٍّ فاعزم على ترك ذلك لله. إلا أن يغلبك القدر السابق والقضاء اللاحق، فإن الله إذا لم يقض عليك بإتيان ذلك الشي‏ء الذي حدّثت به نفسك، كتبه لك حسنة، وقد ثبت عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم عن ربه عزّ وجلّ أنه يقول "إذا تحدّث عبدي بأن يعمل حسنة، فأنا أكتبها له حسنة ما لم يعملها"، وكلمة "ما" هنا ظرفيّة، فكل زمان يمر عليه في الحديث بعمل هذه الحسنة، وإن لم يعملها، فإن الله يكتبها له حسنة واحدة في كل زمان يصحبه الحديث بها فيه، بلغت تلك الأزمنة من العدد ما بلغت، فله بكل زمانِ حديثٍ حسنة، ولهذا قال "ما لم يعملها". ثم‏ قال تعالى "فإذا عملها فأنا أكتبها له بعشر أمثالها"، ومن هنا فُرِض العُشْر فيما سَقَت السماء إن عَلِمتَ. فإن كانت من الحسنات المتعدّية التي لها بقاء، فإن الأجر يتجدد عليها ما بقيت إلى يوم القيامة، كالصدقة الجارية، مثل الأوقاف، والعلم الذي يبثّه في الناس، والسنة الحسنة، وأمثال ذلك.

ثم تمّمَ نعمه على عباده‏ فقال تعالى "وإذا تحدث بأن يعمل سيئة فأنا أغفرها له ما لم يعملها"، و"ما" هنا ظرفيّة كما كانت في الحسنة سواء، والحكم كالحكم في الحديث، والجزاء بالغاً ما بلغ‏. ثم قال "فإذا عملها فأنا أكتبها له بمثلها"، فجعل العدل في السيئة والفضل في الحسنة، وهو قوله "لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى‏ وزِيادَةٌ"، وهو الفضل، وهو ما زاد على المِثْل.

ثم أخبر تعالى عن الملائكة أنها تقول بحكم الأصل عليها الذي نطَّقَها في حقّ أبينا آدم بقولها "أَتَجْعَلُ فِيها من يُفْسِدُ فِيها ويَسْفِكُ الدِّماءَ"، فما ذكرت إلا مساوينا، وما تعرّضت للحسن من ذلك، فإن الملأ الأعلى تغلب عليه الغيرة على جناب الله أن يُهتضم، وعلمتْ من هذه النشأة العنصرية أنها لا بدّ أن تخالف ربها لما هي عليه من حقيقتها، وذلك عندها بالذوق من ذاتها، وإنما هي في نشأتنا أَظْهَر. ولولا أن الملائكة في نشأتها على صورة نشأتنا ما ذكر الله عنهم أنهم يختَصِمُون، والخصام ما يكون إلا مع الأضداد.

وما ذكر الله عن الملائكة في حقّنا أنهم يقولون: ذاك عبدك يريد أن يعمل حسنة. فانظر قوة هذا الأصل ما أحكمه لمن نظر. ومن هنا تعلم فضل الإنسان إذا ذَكَر خيراً في أحد وسكت عن شرّه أين تكون درجته، مع القصد الجميل من الملائكة فيما ذكروه. ولكن نبّهتك على ما نبّهتك عليه من ذلك لتعرف نشأتهم وما جُبِلوا عليه ف "كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى‏ شاكِلَتِهِ". كما قال تعالى وأخبر "أن الملائكة تقول: ذاك عبدك فلان يريد أن يعمل سيئة وهو أبصر به، فقال: ارقبوه، فإن عملها فاكتبوها له بمثلها، وإن تركها فاكتبوها له حسنة، إنه إنما تركها من جرّائي"،‏ أي: من أجلي.

فالملائكة المذكورة هنا هم الذين قال الله لنا فيهم "إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ"، فالمرتبة والتولية أعطتهم أن يتكلموا بما تكلموا به، فلهم كتابة الحسَن من غير تعريف بما تقدّم الله إليهم به في ذلك، ويتكلمون في السيئة لما يعلمونه من فضل الله وتجاوزه. ولولا ما تكلموا في ذلك، ما عرفنا ما هو الأمر فيه عند الله، مثل ما يقولونه في مجالس الذكر في الشخص الذي يأتيها إلى حاجته لا لأجل الذكر، فأطلق الله للجميع المغفرة، وقال "هم القوم لا يشقى جليسهم"، فلولا سؤالهم وتعريفهم بهم، ما عرفنا حكم الله فيهم، فكلامهم عليهم السلام تعليمٌ ورحمة، وإن كان ظاهرة كما يسبق إلى الأفهام القاصرة، مع الأصل الذي نبّهناك عليه‏، وقد قال الله في الحسنة والسيئة "مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها"، وأزيد "ومَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى‏ إِلَّا مِثْلَها"، وأغْفِرُ بعد الجزاء لقوم، وقبل الجزاء لقوم آخرين، فلا بد من المغفرة لكل مسرف على نفسه وإن لم يتب. فمن تحقّق بهذه الوصية عرف النسبة بين النشأة الإنسانية والمَلَكية، وأن الأصل واحد، كما أن ربنا واحد، وله الأسماء المتقابلة، فكان الوجود على صورة الأسماء.


* الفتوحات المكّية، الباب 560.

تم عمل هذا الموقع بواسطة