بسم الله الرحمن الرحيم
وصية
(عليك بالنصيحة على الإطلاق فإنها الدين)
الشيخ الأكبر ابن العربي
وعليك بالنصيحة على الإطلاق، فإنها الدين. خرّج مسلم في الصحيح عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم أنه قال "الدين النصيحة، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامّتهم". واعلَم أن النصاح: الخيط، والمنصحة: الإبرة، والناصح: الخائط، والخائط هو الذي يؤلّف أجزاء الثوب حتى يصير قميصاً، أو ما كان فينتفع به بتأليفه إياه، وما ألّفه إلا بنُصحه.
والناصح في دين الله هو الذي يؤلّف بين عباد الله وبين ما فيه سعادتهم عند الله، ويؤلّف بين الله وبين خلقه، وهو قوله (صلّى الله عليه وسلّم): "النصيحة لله"، وفيه تنبيه في الشفاعة عند الله؛ إذا رأى العبد الناصح أن الله يريد مؤاخذة العبد على جريمته، فيقول لله: يا رب إنك ندبت إلى العفو عبادَك، وجعلت ذلك من مكارم الأخلاق، وهو أَوْلَى من جزاء المسيء بما يسوؤه، وذكرتَ للعبد أن أجر العافين عن الناس فيما أساءوا إليهم فيه مما توجهتْ عليهم به الحقوق على الله، فأنت أحقّ بهذه الصفة، لِمَا أنت عليه من الجود والكرم والامتنان، ولا مُكْرِهَ لك، فأنت أهل العفو والتكرم بالتجاوز عن هذا العبد المسيء، المتعدّي حدودك عن إساءته، وإسبال ذيل الكرم عليه.
واتصاف الحقّ بالجود والعفو عن الجاني أعظم من المؤاخذة على الإساءة؛ فإن المؤاخذة والعقوبة جزاء، وما في الجزاء على الشرّ فضلٌ، إلا إذا كان في الدنيا، لما في إقامة الحدود من دفع المضرّة العامة وما في ذلك من المصالح التي تعود على الناس، مثل قوله عزّ وجلّ "ولَكُمْ في الْقِصاصِ حَياةٌ". وأما في الآخرة، فما ثَمَّ ما يندفع بجزاء المسيء ما يندفع به في الدنيا. فكأن العبد إذا قال هذا يوم القيامة، أو حيث قاله لله بطريق الشفاعة، كأنه ناصحٌ للمقام الإلهي في أن يثني عليه إذا عفا عن المسيء بالكرم والطَّوْل والفضل، فإن في ذلك عين الامتنان. فهذا معنى قوله "الدين النصيحة.. لله" أي في حق الله، فإنه يسعى في أن يثني على الله إذا عفا بما يكون ثناءً حسناً، ولا سيما وقد ورد في الحديث الثابت "إنه لا شيء أحبّ إلى الله من أن يُمدَح"، فكما أنه مُدِحَ في الدنيا بما نَصب من الحدود التي درأ بها المضارّ عن عباده، إذا أقامها أئمة المسلمين على المذنبين، كذلك يُمْدَح بالعفو والتجاوز في الدار الآخرة؛ لأنه هنالك ما تمشي هذه المصلحة التي نُصِبَتْ من أجلها إقامة الحدود التي لا يتمكّن الشفاعة فيها؛ كحدّ السارق والزاني وحقوق الله على الإطلاق.
وأما ما هو حقّ للعبد، فإن الله قد ندب فيه إلى العفو والتجاوز، فالعفو من وليّ الدم، أو قبول الديّة، فإن المظلوم هو المقتول، وقد مات، فالطالب قد تقدّم؛ كالشاكي الذي يمشي إلى السلطان رافعاً على من ظلمه. فجعل الديّة كالإحسان لولي الدم، لعل ذلك الشاكي إذا بلغه إحسانه لذوي رَحِمِه يسكت عنه ولا يطالبه عند الله الحَكَم العدل بشيء من دمه.
وأما النصيحة لرسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم؛ ففي زمانه إذا رأى منه الصاحب أمراً قد قرر خلافَه، والإنسان صاحب غفلات، فينبّه الصاحبُ رسولَ الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم على ذلك، حتى يواصل فِعْلَه بالقصد، فيكون حكماً مشروعاً، أو فَعِلَهُ عن نسيان، فيرجع عنه. فهذا من النصح لرسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم؛ مثل سهوِه في الصلاة، فالواجب عليه في الرباعية أن يصليها أربعاً، فسلّم من اثنتين، فقيل له في ذلك، فهذه نصيحة لرسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم، فرجع وأتمّ صلاته وسجد سجدتي السهو، وكان ما قد روي في ذلك وأمثال هذا.
ولهذا أمر الله عز وجل نبيه صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم بمشاورة أصحابه فيما لم يوحَ إليه فيه، فإذا شاورهم تعيّن عليهم أن ينصحوه فيما شاورهم فيه، على قدر علمهم، وما يقتضيه نظرهم في ذلك أنه مصلحة، كنزوله يوم بدر على غير ماء، فنصحوه وأمروه أن يكون الماء في حيّزه صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم ففعل. ونصحه عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قتل أسارى بدر حين أشار بذلك.
وأما بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم فلم تبق له نصيحة. ولكن إذا كانت هذه اللامُ لام الأجْلِيّة؛ بقيت النصيحة. فهذا قد بيّنا ما في نصيحة رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم أن المشير الناصح قد جمع بين رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم، وبين الرأي الذي فيه المصلحة، كما يجمع الناصح الذي هو الخائط بالخياطة بين قطعة الكُمّ والبدن في الثوب.
وأما النصيحة لأئمة المسلمين، وهم ولاة الأمور منّا، القائمون بمصالح عباد الله الدينية، والحكّام، وأهل الفتاوى في الدين من العلماء يدخلون في أئمة المسلمين أيضاً. فإن كان الحاكم عالماً كان، وإن لم يكن من العلماء بتلك المسألة سأل من يعلم عن الحكم فيها، فيتعيّن على المفتي أن ينصح ويفتيه بما يراه أنه حقّ عنده، ويذكر له دليله على ما أفتاه به، فيخلّصه عند الله. فهذه هي النصيحة لأئمة المسلمين.
ولما لم تُفرض العصمة لأئمة المسلمين، وعلم أنهم قد يخطئون ويتبعون أهوائهم، تعيّن على أهل الدين من العلماء بالدين أن ينصحوا أئمة المسلمين ويردّوهم عن اتباع أهوائهم في الناس؛ فيؤلفون بين ما هو الدين عليه وبينهم، فمثل هذا هو النصح لأئمة المسلمين، فيعود على الناس نفع ذلك.
وأما النصيحة لعامّتهم فمعلومة؛ وهي أن يشير عليهم بما لهم فيه المصلحة التي لا تضرّهم في دينهم ولا دنياهم، فإن كان ولا بدّ من ضرر يقوم من ذلك، إما في الدين أو في الدنيا، فيرجّحوا في النصيحة ضرر الدنيا على ضرر الدين، فيشيرون عليهم بما يَسلم لهم فيه دينُهم؛ فإن الله يقول "ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ في الدِّينِ من حَرَجٍ"، وقال (صلّى الله عليه وسلّم): "دين الله يسر"، وقال (تعالى): "فَاتَّقُوا الله ما اسْتَطَعْتُمْ"، وإن أضرّ بدنياهم. ومهما قدروا على دفع الضرر في الدين والدنيا معاً بوجه من الوجوه وعرفوه، تعيّن عليهم في الدين أن ينصحوه في ذلك ويبيّنوه، والمستفتي بالخيار في ذلك بحسب ما يوفّقه الله إليه.
والذي أقول به: إن النصيحة تعمّ، إذ هي عين الدين، وهي صفة الناصح؛ فتسري منفعتها في جميع العالم كله من الناصح الذي يستبرئ لدينه، ويطلب معالي الأمور؛ فيرى حيواناً قد أضر به العطش، وقد حاد ذلك الحيوان عن طريق الماء، فيتعيّن عليه أن يردّه إلى طريق الماء ويسقيه إن قدر على ذلك، فهذا من النصيحة الدينية. وكذلك لو رأى من ليس على ملّة الإسلام يفعل فعلاً من سفساف الأخلاق، تعيّن على الناصح أن يردّه عن ذلك مهما قدر إلى مكارم الأخلاق، وإن لم يقدر عليه، تعيّن عليه أن يبيّن له عيب ذلك، فربّما انتفع بتلك النصيحة ذلك الشخص بما له في ذلك من الثناء الحسن، وينتفع بتلك النصيحة من اندفع عنه ضرر هذا الذي أراد أن يضرّه، وإن لم يكن مسلماً ذلك المدفوع عنه.
فيتعيّن على صاحب الدين نصح عباد الله مطلقاً، ولهذا يتعيّن على السلطان أن يدعو عدوّه الكافر إلى الإسلام قبل قتاله، فإن أجاب، وإلا دعاه إلى الجزية إن كان من أهل كتاب، فإن أجاب إلى الصلح بما شرط عليه قَبِل منه. يقول الله "وإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وتَوَكَّلْ عَلَى الله"، فيبقي على المسلمين إن كانت المنفعة للمسلمين في ذلك. فإن أبوا إلا القتال قاتَلهم، وأمر المسلمين بقتالهم، على أن تكون "كَلِمَةُ اللهِ هِيَ العُليا" و"كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى".
إلا أنه من التزم النصح قلّ أولياؤه، فإن الغالب على الناس اتباع الأهواء، ولذلك يقول رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم "ما ترك الحقّ لِعُمَرَ مِنْ صديق"، وكذلك قال أويس القرني "وقولك الحقّ لم يترك لك صديقاً"، ولنا في ذلك:
لَمَّا لَزِمْتُ النُّصْحَ والتّحقيقا *** لَمْ يَتْرُكَا لِيْ فِي الوُجودِ صَدِيقا
ويحتاج الناصح إلى علمٍ كثيرٍ من علم الشريعة، لأنه العلم العام الذي يعمّ جميع أحوال الناس، وعلم زمانه ومكانه. وما ثم إلا الحال والزمان والمكان، وبقي للناصح علمُ الترجيح إذا تقابلت هذه الأمور، فيكون ما يُصلِح الزمانَ يُفسِد الحالَ أو المكانَ، وكذلك كلّ واحد منها؛ فينظر في الترجيح، فيفعل بحسب ما يترجّح عنده، وذلك على قدر إيمانه.
مثال ذلك: أن يعلم أن الزمان قد أعطى بحاله في أمرين، هما صالحان في حقّ شخص، وضاق الزمان عن فعلهما معاً، فيعدِل إلى أولاهما، فيشير به على المستشير. وكذلك إذا عرف من حال شخص المخالفة واللجاج، وإنه إذا دلّه على أمر فيه مصلحته يفعل بخلافه، فمن النصيحة أنه لا ينصحه، بل يشير عليه بخلاف ذلك؛ إذا علم إن الأمر محصور بين أن يفعل ذلك، أو هذا الذي فيه المصلحة، وشأنه المخالفة واللجاج، فيشير عليه بما لا ينبغي، فيخالفه فيفعل ما ينبغي. والأَوْلَى عندي تركُه. ولقد جرى لي مع أشخاص أظهرنا لهم أن في فعلهم ذلك الخير الذي نريده منهم نكايتنا، وهم يريدون نِكايتنا، فأشرنا عليهم أن لا يفعلوا ذلك، ولهم في فعله الخير العظيم لهم، فلم يفعلوا، وفعلوا ما نهيتهم عنه أن يفعلوه. فهذه نصيحة خفيّة لا يشعر بها كل أحد، وهذا يسمى علم السياسة، فإنه يسوس بذلك النفوس الجموحة، الشاردة عن طريق مصالحها.
فلذلك قلنا: إن الناصح في دين الله يحتاج إلى علم كثير، وعقل وفكر صحيح، ورويّة حسنة، واعتدال مزاج، وتؤدة. وإن لم تكن فيه هذه الخصال، كان الخطأ أسرع إليه من الإصابة. وما في مكارم الأخلاق أدقّ ولا أخفى ولا أعظم من النصيحة، ولنا فيه جزء سّميناه "كتاب النصائح"، ذكرنا فيه ما لا يُعوَّل عليه وما يُعوَّل عليه، ولكن أكثره فيما لا يُعوَّل عليه ممّا يُعوِّل الناسُ عليه، ولكن لا يعلمون.
* الفتوحات المكّية، الباب 560.