بسم الله الرحمن الرحيم
وصية
(عليك بملازمة ما افترضه الله عليه)
الشيخ الأكبر ابن العربي
وعليك بملازمة ما افترضه الله عليك على الوجه الذي أمرك أن تقوم فيه. فإذا أكملت نشأة فرائضك، وإكمالها فرضٌ عليك، حينئذ تتفرّغ ما بين الفرضين لنوافل الخيرات، كانت ما كانت. ولا تحقّر شيئاً من عملك، فإن الله ما احتقره حين خلقه وأوجده، فإن الله ما كلّفك بأمر إلا وله بذلك الأمر اعتناء وعناية حتى كلّفك به، مع كونك في الرتبة أعظم عنده، فإنك محلٌّ لوجود ما كلّفك به، إذ كان التكليف لا يتعلّق إلا بأفعال المكلَّفين، فيتعلق بالمكلَّف من حيث فعله، لا من حيث عيْنِه.
واعلم أنك إذا ثابرت على أداء الفرائض، فإنك تقرّبت إلى الله بأحبّ الأمور المقرِّبة إليه، وإذا كنت صاحب هذه الصفة، كنت سمع الحق وبصره، فلا يسمع إلا بك، ولا يبصر إلا بك، فيد الحق يدك؛ "إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ الله يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ وأيديهم"، من حيث ما هي يَدُ الله، هي فوق أيديهم من حيث ما هي أيديهم، فإنها المبايعة اسم فاعل، والفاعل هو الله، فأيديهم يد الله، فبأيديهم بايعَ تعالى، وهم المبايعون. والأسباب كلها يد الحق التي لها الاقتدار على إيجاد المسبِّبات، وهذه هي المحبة العظمى التي ما ورد فيها نصّ جليّ كما ورد في النوافل، فإن للمثابرة على النوافل حباً إلهياً منصوصاً عليه، يكون الحقُّ سمعَ العبد وبصرَه، كما كان الأمر بالعكس في حبّ أداء الفرائض.
ففي الفرض عبودية الاضطرار وهي الأصلية، وفي الفرع وهو النفل عبودية الاختيار، فالحقّ فيها سمعك وبصرك، ويسمى نفلاً لأنه زائد، كما أنك بالأصالة زائد في الوجود، إذ كان الله ولا أنت، ثم كنت، فزاد الوجود الحادِث، فأنت نفلٌ في وجود الحقّ، فلا بد لك من عمل يسمى نفلاً، هو أصلك. ولا بد من عمل يسمى فرضاً، وهو أصل الوجود، وهو وجود الحقّ.
ففي أداء الفرض أنت له، وفي النفل أنت لك، وحبه إياك من حيث ما أنت له، أعظم وأشد من حبه إياك من حيث ما أنت لك، وقد ورد في الخبر الصحيح عن الله تعالى "ما تقرّب إلى عبدٌ بشيء أحبّ إليّ مما افترضته عليه، وما يزال العبد يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحببته، فكنت سمعه الذي به يسمع، وبصره الذي به يبصر، ويده التي يبطش، ورجله التي بها يمشي، ولئن سألني لأعطينّه، ولئن استعاذ بي لأعيذنّه، وما تردّدتُ عن شيء أنا فاعله تردّدي عن نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءتَه". فانظر إلى ما تنتجه محبة الله، فثابر على أداء ما يصحّ به وجود هذه المحبة الإلهية.
ولا يصحّ نفلٌ إلا بعد تكملة الفرض، وفي النفل عينِه فروضٌ ونوافلٌ، فبما فيه من الفروض تكملُ الفرائض. ورد في الصحيح أنه يقول تعالى "انظروا في صلاة عبدي أتّمها أم نقصها، فإن كانت تامة كتبت له تامة، وإن كان انتقص منها شيئاً قال: انظروا هل لعبدي من تطوع، فإن كان له تطوّع قال الله: أكملوا لعبدي فريضته من تطوّعه، ثم تؤخذ الأعمال على ذاكُم". وليست النوافل إلا ما لها أصل في الفرائض، وما لا أصل له في فرض، فذلك إنشاء عبادة مستقلة، يسميها علماء الرسوم "بدعة"، قال الله تعالى "ورَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها"، وسمّاها رسول الله صَلَّى اللهُ عَليهِ وسَلَّم "سُنّة حسنة"، والذي سنّها له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، من غير أن يُنقِص من أجورهم شيئاً.
ولمّا لم يكن في قوة النفل أن يَسُدّ مَسَدَّ الفرض، جعل في نفس النفل فروضاً لتجبر الفرائض بالفرائض، كصلاة النافلة بحكم الأصل، ثم إنها تشتمل على فرائض من ذكرٍ وركوعٍ وسجودٍ، مع كونها في الأصل نافلة، وهذه الأقوال والأفعال فرائض فيها.
* الفتوحات المكّية، الباب 560.